من أرض العراق، بهويته العريقة، وتاريخه الضارب في جذور الحضارات، وبتاريخه الذي سُطِّر بدماء الأحرار، يحمل الكورد الفيليون إرثاً غنياً بالثقافة والعلم والتجارة، لكنه ممتزج بآلام الاضطهاد والتهجير والإبادة الجماعية. فعلى مر العصور، تعرض هذا المكون العراقي الأصيل إلى أشد أنواع الظلم والتنكيل، وبلغت ذروتها في عهد النظام البعثي، الذي أطلق حملات ممنهجة لسحب الجنسية، وتهجيرهم قسريًا، وإعدام شبابهم، ومصادرة ممتلكاتهم، في واحدة من أبشع الجرائم التي شهدها العراق الحديث.
بدأ استهداف الكورد الفيليين رسمياً عام 1969، عندما أصدرت حكومة حزب البعث قراراً بترحيلهم عن العراق، واستمر هذا القمع بشكل متصاعد حتى عام 1970، حيث تعرضوا لموجة واسعة من الاعتقالات والتهجير القسري والتغييب والإعدامات الجماعية.
وفي نيسان 1980، أطلق النظام البعثي أشرس حملة لترحيل من وصفهم بـ«التبعية الإيرانية»، ومن ضمنهم الكورد الفيليون، تبعها في 7 أيار 1980 توقيع المرسوم رقم 666 من قبل صدام حسين، الذي قضى بمصادرة ممتلكاتهم، وترحيلهم، وإسقاط جنسيتهم، واحتجازهم من دون وجه حق.
وفقاً للوثائق والتقارير الحقوقية، تم تهجير أكثر من 70 ألف كوردي فيلي قسراً إلى إيران، فيما تعرض أكثر من 20 ألف شاب فيلي للتغييب القسري. وقد أُجبر المرحّلون على ترك كل ممتلكاتهم، كما تم اعتقال آلاف الشباب منهم، ولم يُعرف مصيرهم منذ ذلك الحين.
وفي عام 2011، اعترف البرلمان العراقي بأن ما جرى للكورد الفيليين كان جريمة إبادة جماعية، لكن رغم هذا الاعتراف الرسمي، لم يتم إنصافهم بشكل حقيقي، ولم تُعَد إليهم حقوقهم بالكامل.
كما أشار تقرير حكومي عراقي صادر عام 2010، إلى أنه بعد سقوط النظام البعثي، تم استعادة الجنسية العراقية لـ100 ألف كوردي فيلي فقط، بينما لا يزال عشرات الآلاف منهم محرومين من جنسيتهم، بسبب ظروفهم القسرية التي منعتهم من العودة إلى العراق، أو بسبب تعقيدات قانونية حالت دون استرجاع حقوقهم.
نكبة إنسانية
يحمل الكورد الفيليون في ذاكرتهم الجماعية قصصاً مأساوية تفوق الوصف، فقد تعرّضوا لجرائم بشعة أثناء عمليات التهجير، حيث صرّح العديد من الناجين بأنهم أُجبروا على السير فوق حقول الألغام عند الحدود العراقية - الإيرانية، مما أدى إلى مقتل المئات، وبتر أطراف العشرات، في واحدة من أبشع الجرائم التي وثّقتها شهادات الناجين.
ومن بين الشهادات المؤلمة، تروي بيداء كاظم، وهي معلمة لغة عربية وطالبة ماجستير حالياً: «في عام 1980، تم اعتقال عائلتي وعزلنا عن بعضنا، وُلدتُ في السجن في اليوم نفسه الذي تم فيه إعدام والدي في سجن آخر».
أما «أبو علي» الذي طلب عدم ذكر اسمه وذكر لقبه فقط، وهو شاهد عيان من مدينة الكوت، فيروي تفاصيل مرعبة عن مشاهداته: «عند وصولنا الحدود لترحيلنا، ألقى رجال الأمن إلينا مهداً فيه طفل لم يُعرف اسمه ولا من أي عائلة، وقالوا لنا إنه الناجي الوحيد من أسرته التي قُتلت بالكامل».
طمس الجرائم.. المقابر الجماعية وإخفاء الأدلة
في محاولة لإخفاء الجرائم المرتكبة بحقهم، تعمد النظام البعثي عدم إصدار مقتبسات حكم للكثير من السجناء الفيليين، حتى لا يتم تسجيلهم رسمياً كضحايا، وهو ما جعل الكثير منهم مجهولي المصير، وضياع حقوقهم القانونية.
ورغم مرور عقود على هذه الأحداث، لا تزال المقابر الجماعية تُكتشف واحدة تلو الأخرى، حيث سجلت المنظمات الحقوقية العثور على عدة مقابر جماعية تخص الكورد الفيليين، كان آخرها في السماوة نهاية عام 2024، فيما لا تزال الكثير من المقابر الأخرى مجهولة المصير، ما يثبت حجم الفظائع التي ارتُكبت ضد هذا المكون العراقي الأصيل.
شهادة تاريخية: الكورد الفيليون جزء من هوية العراق
في لقاء مع «كوردستان بالعربي»، تحدث الناشط الفيلي المعروف في محافظة واسط، الدكتور محمد محسن ولي الگوران: «أن الكورد الفيليين يعدون من أقدم الشعوب التي استوطنت بلاد ما بين النهرين، وقد ساهموا في بناء العديد من المناطق الحضرية في العراق، حيث تعود جذور العديد من الحضارات الكبرى في العالم إلى هذا الشعب. وأوضح أن الكورد الفيليين تعرضوا لعملية تهجير قسري بدأت ملامحها في أواخر الستينات من القرن الماضي، إذ صنفتهم الحكومة العراقية كـ«أجانب»، رغم أنهم وُلدوا في العراق وكان لديهم الوثائق الرسمية التي تثبت عراقيتهم. وأضاف أن الحقد المذهبي والقومي كان السبب الرئيسي وراء قرار الحكومة بترحيلهم إلى إيران تحت ذريعة التبعية.
وتحدث الگوران عن معاناة الكورد الفيليين بسبب «وزرين»؛ الأول انتماؤهم للقومية الكوردية، والثاني انتماؤهم للمذهب الجعفري، مما جعلهم هدفاً للنظام البعثي الذي عمل على إبعادهم عن العراق ومصادرة ممتلكاتهم، لا سيما في الأسواق التجارية الكبرى مثل سوق الشورجة في بغداد. لم يقتصر الأمر على التهجير وإسقاط الجنسية، بل امتد ليشمل اعتقال وغياب شبابهم بشكل قسري، حيث يقدر عدد المغيبين بحوالي 22 ألف شاب فيلي».
وبحسب الدكتور ولي الگوران أن التهجير كان عملية ممنهجة، حيث قامت الحكومة بمصادرة ممتلكات الكورد الفيليين ووزعتها على منتسبي الأجهزة الأمنية للنظام، في إطار خطة شاملة لتغيير التركيبة الديموغرافية في مناطق بغداد وواسط وديالى وذي قار وميسان بهدف القضاء على وجودهم.
بعد 2003.. هل حصل الفيليون على حقوقهم؟
بعد سقوط نظام صدام حسين في 2003، عاد الآلاف من الكورد الفيليين إلى العراق، لكنهم تفاجأوا بوجود عقبات تحول دون استعادة حقوقهم، حيث واجهوا صعوبات قانونية في استعادة جنسيتهم العراقية وممتلكاتهم المصادرة، مما دفع البعض منهم إلى الاستقرار مجدداً في دول المهجر.
وعلى الرغم من اعتراف الحكومات العراقية المتعاقبة بمظلوميتهم، إلا أن الكثير من حقوقهم لا تزال مسلوبة، ويعانون من التهميش الاجتماعي والسياسي، إضافة إلى فقدانهم لهويتهم الثقافية، فمعظمهم لم يعد يتحدث اللغة الكوردية، نتيجة عمليات التهجير والانصهار القسري الذي تعرضوا له.
رغم مرور أكثر من أربعة عقود على هذه الجريمة، لا يزال الكورد الفيليون يواجهون تبعات الإبادة الجماعية، وتهجيرهم القسري، وضياع حقوقهم. وبينما يسعون جاهدين لإثبات حقهم في المواطنة واستعادة ممتلكاتهم، تظل قضيتهم واحدة من أكبر ملفات التهجير والتطهير العرقي في تاريخ العراق الحديث، والتي لم تجد حتى اليوم العدالة الكاملة.
حسين جنكير: شاعر وكاتب مسرحي، مذيع ومعد برامج إذاعية