«قلعة كركوك» قلب الحضارة النابض
«قلعة كركوك» قلب الحضارة النابض

تقف قلعة كركوك شامخة في قلب مدينة كركوك العريقة، كشاهد حي على تعاقب الحضارات التي مرت على المنطقة عبر آلاف السنين. المدينة التي تأسست في القرن الثامن قبل الميلاد، عُرفت عبر العصور بمسميات متعددة، منها «أرافا» و«أرابخا» و«كرخا-د-بيث-سلوخ»، كما أشار إليها بطليموس باسم «كوركور».

الصور: محمد وليد

تاريخ قلعة كركوك

يعود تاريخ بناء القلعة إلى العصور القديمة، حيث ترجع جذورها إلى الحقبة الآشورية. وتشير الأدلة الأثرية إلى أن المنطقة شهدت نشاطاً بشرياً منذ نحو 5 آلاف عام، إذ ذكرتها الكتابات السومرية كمركز تجاري واستراتيجي.

وبحسب ما ورد في كتابات المؤرخين العرب مثل ابن خرداذبة وابن فضلان، كانت القلعة منطقة استراتيجية مهمة خلال العصور الإسلامية. كما تم تعزيزها في العصور الكوردية القديمة، حيث استخدمها الكورد كحصن لصد الهجمات والغزوات المتكررة.

تتربع القلعة على تلة مرتفعة في وسط مدينة كركوك، مما منحها إطلالة استراتيجية على المناطق المحيطة بها، وجعلها حصناً منيعاً عبر العصور. تمكنت من الصمود لأكثر من 4 آلاف عام بفضل عدة عوامل:

- بناؤها على تل طبيعي اصطناعي يصعب اختراقه.

- استخدام مواد بناء محلية متينة كالطوب الطيني المشوي والحجر الجيري

- تصميم دفاعي محكم بجدران عالية وسميكة وأبراج مراقبة

- نظام أساسات عميقة مدعمة بطبقات من الطوب والحجر

- تقنيات بناء متطورة كالأقواس والقباب لتوزيع الأحمال

- صيانة دورية عبر العصور المتعاقبة

ويمتاز النمط المعماري للقلعة باستخدام الحجر الأبيض والجص في بناء جدرانها، وتعبيد طرقها بنوع خاص من الطابوق يُعرف بـ«الطابوق الفرشي». وقد احتوت على أربعة أبواب رئيسية: الباب الرئيسي ذو المدرجات، وباب الطوب، وباب البنات السبع، وباب الحلوجية.

المعالم الأثرية الرئيسية

تضم القلعة مجموعة متنوعة من المعالم الأثرية التي تعكس ثراء تاريخها، منها:

الجوامع التاريخية: الجامع الكبير (مريم آنا) الذي بُني على أنقاض كنيسة في القرن الثالث عشر، وجامع النبي دانيال المنسوب للشيخ محمد دانيال الموصلي، وجامع عريان الذي يعود لعام 441 هـ، وجامع أولو المبني على أنقاض كنيسة، وجامع حسن باكيز من القرن الثامن عشر، وجامع فضولي المنسوب للشاعر فضولي البغدادي.

المزارات الدينية: تحتضن القلعة عدة مزارات دينية مهمة مثل مقام النبي دانيال، ومقام النبي حنين، ومقام النبي عزير.

الكنائس: من أبرزها كنيسة أم الأحزان (الكنيسة الكلدانية) التي بُنيت على أنقاض كاتدرائية قديمة وأُعيد تجديدها عام 1911.

البيوت التراثية: تحتفظ القلعة بعدد من البيوت القديمة التي تحمل أسماء أصحابها، مثل بيت طيفور، وبيت عبد الغني، وبيت صديق عارف، وبيت سيد فاتح، وبيت ميكائيل، وبيت توما.

اكتشافات أثرية حديثة

في أكتوبر 2024، أعلنت هيئة الآثار العراقية عن اكتشاف موقع أثري يعود لأكثر من 4 آلاف عام في كركوك، تضمن بقايا وحدات بنائية، وورش وأفران لصناعة الفخار، بالإضافة إلى قبور تحتوي على هدايا دفنية، مما أسفر عن اكتشاف حوالي 150 قطعة أثرية.

ووفقاً لما صرح به مدير دائرة الآثار والسياحة في كركوك، رائد عگلة العبيدي، لمجلة «كوردستان بالعربي»: «هناك برامج ترميم قائمة ومخططات مستقبلية تهدف إلى الحفاظ على قلعة كركوك. تشمل هذه الجهود تخصيصات مالية وتعاوناً دولياً، بالإضافة إلى عقد اجتماعات تنسيقية، إلا أن تنفيذ هذه الخطط يتطلب جهوداً مستمرة ورؤية واضحة لضمان حماية هذا المعلم التاريخي المهم».

وقد قدمت محافظة كركوك كشوفات تقديرية لإعادة تأهيل القلعة والمنطقة المحيطة بها، بلغت قيمتها حوالي 30 مليار دينار عراقي. كما تقوم الوكالة التركية للتعاون والتنسيق «تيكا» بترميم مقام النبي دانيال ومقبرة تضم رفات الشهداء العثمانيين داخل القلعة.

في نوفمبر 2024، أعلنت دائرة آثار كركوك عن خطط لإعمار وتأهيل القلعة الأثرية، بالإضافة إلى إجراء أكثر من 80 كشفاً للجوامع والشواخص والبيوت التراثية والكنائس بهدف إعادة تأهيلها.

شخصيات تاريخية ارتبطت بالقلعة

ارتبطت قلعة كركوك بالعديد من الشخصيات التاريخية البارزة، منها:

- نادر شاه الأفشاري (1688 - 1747) الذي استخدم القلعة كنقطة استراتيجية خلال حملاته العسكرية

- إبراهيم باشا الملي، أحد زعماء العشائر الكوردية في أواخر العهد العثماني

- الملك غازي (1912 - 1939) الذي شهدت فترة حكمه اهتماماً متجدداً بالتراث العراقي

- خالد النقشبندي، من أبرز المتصوفة في القرن التاسع عشر

- داود باشا، والي بغداد العثماني الذي استخدم القلعة لتأمين السيطرة على المنطقة

- القاضي أبو النجم الكركوكي الذي كان له دور في الحياة الثقافية والقضائية بالمدينة

أهمية القلعة الحضارية

لم تكن قلعة كركوك مجرد حصن عسكري، بل كانت مركزاً للحياة الاجتماعية والثقافية في المدينة. احتضنت العديد من الفعاليات الثقافية والتجارية، وكانت موطناً لمختلف الجماعات العرقية والدينية، مما جعلها نموذجاً حياً للتعايش بين الثقافات.

وبهذا الصدد يرى الباحث والمؤرخ صلاح عريبي، أن أهمية قلعة كركوك تتجلى في عدة أمور:

1) فإنها تعكس التنوع الثقافي من خلال الطرز العمارية والثقافية المتنوعة الموجودة فيها. ومن الناحية الدينة فإنها يوجد فيها ضريح النبي دانيال وكنيسة أم الأحزان، وعلى بعض الجوامع مما يعطي انطباعاً دينياً متنوعاً عبر التاريخ.

2) سكنت في القلعة مجموعات عرقية متنوعة، بدءاً بأقوام في الفترات السومرية ومن ثم الآشوريين وبعدهم البابليين، ثم الأقوام الإسلامية، الأموية والعباسية والأتابكية والجلائرية، والعثمانيين والعراقيين. وكانت القلعة تضم محلات مثل محلة يهود ومحلة مسلم وبهذا أعطت انطباعاً أن سكان قلعة كركوك كانت من خليط متجانس.

3) لعبت القلعة دوراً مهماً وبارزاً في تعزيز الوحدة بين سكان كركوك في كل الفترات باعتبار أن سكان القلعة كانوا عبارة عن خليط متجانس.

4) ساهمت قلعة كركوك في تعزيز الهوية الثقافية للمدينة من خلال ذكرها على مر التاريخ. فقد كانت كركوك تسمى قديماً أرابخا أو أربخا. وتعتبر قلعة كركوك من أولى الأماكن في كركوك التي كانت استخدمت للسكن. وبهذا ترمز الزخارف الهندسية والنباتية والحيوانية إلى هوية الثقافة في مدينة كركوك.

اليوم، تقف القلعة شامخة كرمز خالد للهوية التاريخية والثقافية الكركوكية، وشاهداً على عراقة الحضارات التي ازدهرت على أرض العراق. إنها ليست مجرد أحجار متراصة، بل سجل حي يروي حكايات الأجيال التي عاشت تحت سمائها، وصمدت في وجه تحديات الزمن.


شنو الداودي: صحفية كوردية من كركوك


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved