لا تكتمل زيارة مدينة السليمانية إلا بزيارة أسواقها التاريخية وشراء كرزاتها وحلوياتها اللذيذة لاسيما «من السما» الذي يشكل إحدى علاماتها المميزة التي تنفرد بها بفضل الهبة الربانية التي حباها بها الباري عز وجل.
ومعلوم أن ذكر حلوى «المن والسلوى» أو «من السما» أو «ندى السماء» أو «العسل السماوي» أو «گهزۆ» كما تعرف باللغة الكوردية، قد ورد في عدة آيات من القرآن الكريم كسورة «البقرة» آية 57، في قوله تعالى {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.. وكذلك في سورة «الأعراف» آية 160، في قوله تعالى {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. وفي سورة «طه» آية 80، في قوله تعالى {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى}.. كنعمة من النعم التي أنعم الباري عز وجل في علاه على الناس، مما يعكس عراقتها عبر التاريخ.
ويوصف المن في بعض الروايات بأنه يشبه الصمغ وطعمه يماثل طعم العسل. ومن بين معاني كلمة (المن) أنها «المغذي الإلهي».. وتشير بعض المصادر إلى أن المسيحيين في العراق كانوا من بين أول من قام بصناعة هذه الحلوى.
وتجمع مادة المن الخام، وهي مادة صمغية داكنة الخضار، من على الأشجار (لاسيما البلوط والمازو ولسان العصفور والجوز) في المناطق الجبلية النائية، خصوصاً في منطقة بنجوين (قضاء يبعد 96 كلم من السليمانية، وشارباژير شرقي المدينة أيضاً)، أثناء مواسم تكاثرها في فصل الخريف، على شكل قطع متفاوتة الحجم، يقوم الأهالي بتجميع عشرات الأطنان منها سنوياً وبيعها لأصحاب معامل الحلويات.
ويعد تقديم حلوى «من السما» من التقاليد الشائعة في الأعياد والمناسبات الكوردية، تعبيراً عن الفرح والكرم. كما تعتبر هدية مميزة يتم تبادلها بين الأهل والأصدقاء، مثلما يحرص زوار السليمانية على شرائها.
صناعة «من السما»
وبشأن كيفية صناعة «من السما»، يقول توفيق حلوجي، وهو من أشهر صناع الحلويات في السليمانية، إن المادة الخام «تطحن وتغربل قبل المباشرة بإذابتها بالماء وغليها في قدر كبير لعدة ساعات ومن ثم نصفيها من الشوائب ليبقى لدينا سائل بني داكن اللون (يشبه الدبس)»، ويشير إلى أن الخطوة التالية «تتمثل بإضافة بياض البيض لتبييضها وبعدها المكسرات من جوز أو لوز أو لب الفستق فضلاً عن نكهات ومواد أخرى كالهيل أو ماء الورد لإكسابها طعماً مميزاً ومن ثم نغطيها بالطحين لئلا تلتصق مع بعضها بعضاً بعد أن تُعبّأ في علب خشبية للحفاظ عليها من الرطوبة والتعفن أو يتم تقطيعها وتغليفها بأغلفة شفافة قبل بيعها».
ويضيف حلوجي، الذي أصبح اسمه من معالم السليمانية السياحية، لاسيما بعد أن افتتح فندقاً يحمل اسمه في شارع سالم الراقي وسط المدينة، أن حلوى من السما «تتميز بمذاقها اللذيذ وقيمتها الغذائية العالية كونها تنشط الجهاز العصبي وتحفز الذاكرة خصوصاً لكبار السن»، ويلفت إلى أن غالبية زوار السليمانية من العراقيين أو الأجانب «يحرصون على شراء كميات من حلوى من السما التي تشكل علامة مميزة للمدينة لتقديمها لأهلهم وأحبائهم عندما يعودون لديارهم».
ويوضح حلوجي (79 عاماً)، وهو من مواليد محلة «سرجتان» (أي رأس الشارع) في مركز مدينة السليمانية، أن «عائلة والدتي كانت تمتهن صناعة الحلويات. ولقد عملت في معمل جدي لوالدتي الحاج سعيد حلوجي منذ كان عمري سبعة أعوام ومن ثم عملت مع أخوالي».
ويتابع لقد «افتتحت أول معمل حلويات خاصاً بي عام 1970 في منطقة دركزين بشارع كاوة في مركز السليمانية، قبل أن أنقله إلى المنطقة الصناعية بالمدينة لاحقاً حيث يواصل العمل حتى الآن»، ويعزو سبب شهرته إلى «الإخلاص في العمل والحرص على جودة المنتج وأناقة تقديمه».
تنوع في الإنتاج والمذاق
ولا يقتصر إنتاج «من السما» في السليمانية على توفيق حلوجي فحسب، بل هنالك أيضاً العديد من صناع هذه الحلوى اللذيذة، وإن كانوا أقل شهرة. وفي هذا الصدد يقول عزيز هورامي، صاحب محل لبيع الحلويات والكرزات في شارع كاوة، إن هناك «العديد من صناع الحلويات لاسيما من السما في السليمانية، لكن توفيق حلاوجي يبقى الأكثر شهرة وجودة بينهم».
ويضيف هورامي، أن «من علامات وأنواع من السما المعروفة في السليمانية هي كل من جير وهورامان وARA وطه علي حلوجي، على سبيل المثال لا الحصر»، لافتاً إلى أن سعر من السما «يتفاوت بين 16 ألف دينار لكل 800 غم وصولاً إلى 40 ألف دينار».
ويوضح أن السياح العراقيين والأجانب «يقبلون على شراء من السما السليمانية لتقديمه كصوغة (هدية) لأهاليهم وذويهم وأحبائهم»، ويتابع أن هناك «أنواعاً عديدة من حلوى من السما، منها التقليدي المحشي بالفستق أو الجوز أو اللوز والمغطى بالطحين أو المغلف بالورق الشفاف فضلاً عن أنواع أخرى بنكهات الفواكه وإن كان السياح يفضلون النوع التقليدي أكثر من غيره».
في كل الأحوال، تبقى حلوى «من السما» علامة مميزة يسيل لها لعاب كل من يزور السليمانية، مدينة قرابين الحرية وزهرة الإقحوان.
باسل الخطيب: صحفي عراقي