أنفال أم أخدود
أنفال أم أخدود
May 13, 2025

دائماً وفي كل ملة ودين، كانت التجارة بالمقدسات مربحة، ولطالما استغلها السياسيون فرصة لتمويه الحقائق وتضليل البسطاء من الناس؛ ذلك أن الناس يهابون مناقشة ما هو مقدس أو ما ورد في سياق ديني مقدس، وإن لم يكن الأمر كذلك في الحقيقة بل كان في الواقع تدنيساً لمقدس. وفي هذه الحال يصبح هذا المقدس الذي دنسوه بأفعالهم المنكرة المحظورة في كل الشرائع ستاراً كثيفاً يمنع البسطاء من رؤية الحقيقة أو هكذا يظنون. ولكن شمس الحقيقة لا يحجبها غربال، وعين العقل وبصيرة العقلاء من البشر تخرق كل ستار موهوم، وتكشف كل شر مكتوم.

ومن هنا عرف الناس أن ما سماه النظام البعثي البائد «أنفالاً» كان لتضليل العراقيين والعرب بأن ما فعلوا امتداد لما فعل أجدادهم العرب المسلمون في جهادهم هو محض افتراء. فما سموه أنفالاً، اقتباساً من سورة الأنفال في القرآن الكريم، كان في الحقيقة إبادة جماعية لكورد مؤمنين مسلمين، مسالمين، صالحين، كل ذنبهم أنهم كورد تعلقوا بأرضهم التي ولدوا فيها واستقروا، وفيها عاش أجدادهم وسكنوا، قبل أن يهجم الظالمون المتوحشون عليهم بآلاف السنين.

وما كانت العبرة يوماً بالألفاظ إذا كذّبها المقصد والواقع، فما كانت أنفالاً. لأن الضحايا بشر أبرياء ومن خلق الله، والمطابق لعملهم الهمجي هو الأخدود المذكور في الآية الكريمة من سورة البروج «قُتِلَ أصحابُ الأخدود  النار ذات الوقود»، وكلمة «الأخدود» تعني شقاً كبيراً في الأرض، حفروه ليلقوا فيه الصالحين أولاً ثم يبيدوهم قتلاً وحرقاً، تماماً كما فعل نظام صدام بضحايا ما سموه بـ«الأنفال» والذين بلغ عددهم 182 ألفاً من الكورد المؤمنين الصالحين الأبرياء الذين لم يرتكبوا إثماً وما فعلوا شراً، وما هددوا أحداً. 

والمصيبة العظمى أن كل ذلك قد جرى أمام أعين المجتمع الدولى كله، وأعين دول تتزعم الحضارة، وتترأس مجالس حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، تهدد وتعربد إذا ما انتهكت دولة ما معياراً لحقوق الإنسان يخص حرية فرد في التظاهر مثلاً. وجرى أيضاً أمام جامعة عربية تدعي الحرص على حماية مجد العرب، ومنظمة إسلامية تدعي وراثتها لمهمة حماية المسلمين، وأمام جامعات إسلامية عريقة ومراكز إسلامية تثور وتهيج لمجرد مقال في مجلة تنتقص من قاعدة فقهية من قواعد الإسلام.

كل هؤلاء صمتوا صموت أهل القبور، فما اقشعرت أجسادهم لهول الجرائم التي ترتكب ضد الشعب الكوردي الأعزل، ولا تألمت مشاعرهم لمنظر كل هؤلاء البشر الذين كانوا يساقون إلى المحرقة أمام أقمارهم الاصطناعية التي تنظر عن بعد، وما قدر قادة العرب وجماهيرهم أن مثل هذا العمل الوحشي سيكتب في سجل التاريخ ليصبح وصمة عار في تاريخهم. وكذلك قادة الذكر والفكر ما ذكروا ولا فكروا في أن ربط هذه الجرائم بالأنفال يعني وصفاً شنيعاً لسيرة الإسلام وتاريخه مناقضاً لسماحته ورحمته.

ومن هنا كان لا بد من عتب يصل حد التقريع على كل هذه الجهات، وكل المراكز المعنية بالإنسان وبحقوقه. ويظل هذا الحكم يتردد إلى أن يعترفوا بالذنب، ويعتذروا للشعب، ويتوبوا إلى الله. ولا يتوهمَنَّ أحدٌ أن الأنفال وأمثالها الكثيرات من حلبجة الشهيدة ومأساة الكورد الفيليين، والبارزانيين المؤنفلين، والمناضلين الكورد الذين عذبوا حتى الموت في سجون الطغاة، أزلام صدام، ستُمحى في ذاكرة الكورد، أو تُنسى في حساباتهم، وحتى لو لم يأتِ آذار من كل عام لتذكرهم، فإن شواهد القبور وآهات المفجوعين، ستصرخ بوجه الناكرين.

عتاب على المؤسسات الإسلامية

الإنسان خلق الله ومن روح الله «ثم سوّاه ونفخ فيه من روحه»، كرمه الله بالعلم والمعرفة والحرية، وليس في هذا التكريم تمييز بين قوم وقوم، أو ذكر أو أنثى، فكل إنسان له كل هذه الفضيلة. لذا فإن «من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض كمن قتل الناس جميعاً».

وقد مارس النظام الدكتاتوري أبشع إبادة جماعية للكورد بغطاء ديني سموه الأنفال ليوهموا المراكز الإسلامية شرعيتها، ولكن ألم يكن من الواجب عليهم تقصّى الحقائق فيما جرى من قتل بالجملة؟ كيف يتحول الإنسان الذي فيه من روح الله تعالى إلى سلعة تُحرق؟ أما كان عليهم أن يعقدوا مؤتمرات ولقاءات دفاعاً عن الإسلام ضد التضليل والإفساد؟ 

أما تساءلوا: هل هذه الأنفال هي نفسها التي سألوا عنها في القرآن الكريم «يسألونك عن الأنفال» أم أن هذه قصة أخرى ليست هي النزاع حول توزيع غنائم الحروب، بل حول وجود شعب؟

والغريب المستهجن أن بعضهم، ربما، تصوروها - حماقة أو جهلاً أو عمداً - أنها من مظاهر الصحوة الإسلامية، فما دامت كلمات مقدسة تُتلى فهي صحوة، تماماً كما جعل بعضهم ظاهرة الانتحار لغرض جهادي مزعوم صحوة إسلامية. وما الصحوة الإسلامية الحقيقية إلا صحوة قيم الحكمة والخلق الرشيد، والعمل السديد.

اللهم إنك ما أرسلت محمداً إلا رحمة للعالمين. وقد اخترت، يا ربي، من بين ما اخترت من الأوصاف لذاتك «الرحمن الرحيم».

فاعتبروا يا أولي الأبصار.


د. محمد شريف: كاتب ومفكر كوردي مختص في فلسفة القانون



X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved