في بداية شهر أيار من عام 2023، وتحديداً في يوم الخميس الرابع من الشهر وقبل أن تضرب موجة الحر أربيل، كنت برفقة صديقي الصحفي، دلبخوين دارا، في طريقنا إلى حي رويال سيتي. في أربيل. كان مقصدنا منزل السياسي الكوردي البارز محسن دزيي الذي، رغم تجاوز عمره 90 عاماً، لا يزال يتمتع بالأناقة واللطف. كنت قد التقيت به لفترة قصيرة قبل أيام في مجلس عزاء. وكنت بحاجة إلى معلومات شخصية منه لصالح روايتي الأخيرة حول سيرة القائد بارزاني لكن لم تتح لي الفرصة للسؤال عن الفترة التي قضاها في واشنطن العاصمة مع الزعيم الكوردي التاريخي مصطفى بارزاني.
علمت من زملائي في «كوردستان كرونيكل»، أن محسن دزيي كان أحد الأشخاص الذين بقوا إلى جانب البارزاني في أيامه الأخيرة. وهكذا شعرت بأنني يجب أن أقوم بزيارة شخصية له وسماع روايته عن تلك الفترة.
وصلنا في الوقت المحدد لزيارتنا، وكان في استقبالنا ابنه شيروان الذي قادنا إلى غرفة الاستقبال. وبعد لحظات، دخل محسن دزيي نفسه ليحيينا بحرارة، وكان يظهر بأناقة وقامة مستقيمة وملابس رسمية جميلة.
كنت أعلم أن الوقت المخصص للمقابلة محدود، لذا كنت حريصاً على أن أقتصرَ في استفساراتي على الفترة التي قضاها مع الراحل بارزاني في واشنطن عام 1979، خلال معركته الأخيرة مع سرطان الرئة.
«هل يمكنك أن تشاركنا ذكرياتك عن الأيام الأخيرة مع البارزاني؟ هل كان يُظهِر الألم ويتحدث عن أوجاعه؟» سألته.
رفع دزيي رأسه قليلاً، وأغمض عينيه لبضع ثوانٍ كما لو كان في رحلة عبر الذكريات، ثم قال: «كانت معنويات بارزاني مرتفعة، ولم يكن يهتم بمرضه. كان يرفض الحديث عن مرضه أو الشكوى منه بأي شكل من الأشكال. عندما كنا وحدنا يوماً ما، سألته: سيدي، ألا تشعر بالآلام؟ أجاب ضاحكاً: بالطبع أشعر بها، كيف لا! وأضاف: أشعر بنوعين من الألم. الأول هو الألم النابع من كوني لا أعرف ما يمر به شعبي الآن، فأنا لا أعلم ما هي ظروفهم وما هي الصعوبات التي يواجهونها. والثاني هو ألم مرضي الشخصي. وفيما يتعلق بمرضي، فإنني تعلمت منذ طفولتي ألا أظهر الألم».
توقف دزيي لفترة قصيرة قبل أن يستأنف الحديث، وكأنما كان يريد أن يظهر أن اهتمام بارزاني بشعبه كان أكبر من معاناته الخاصة: «خلال هذه الأيام، كان على اتصال دائم مع أعضاء مجلس الشيوخ والصحفيين والسياسيين والسفراء للحديث عن شعبه».
وبينما كنا نتذوق القهوة اللذيذة التي تم تقديمها لنا، أخذ دزيي رشفة من كوبه ثم، بصبر ورُقي، استأنف الحديث. وتابع ليذكر حادثة من 10 ديسمبر 1976، عندما تمت دعوة بارزاني إلى مقر منظمة «هيومن رايتس ووتش» في مدينة نيويورك. كان الحضور متكوناً من صحفيين وسفراء ومواطنين عاديين وبعض أعضاء مجلس الشيوخ. طُلب من بارزاني أن يخاطب الحضور، وأثناء صعوده إلى منصة الحدث ذهب إلى نافذة تطل على مقر الأمم المتحدة، مما ترك الحضور في حالة من الحيرة. عاد ليشرح قائلاً، «هل تعلمون لماذا وقفت بجانب النافذة؟ لقد رأيت أعلاماً من جميع دول العالم، باستثناء علم كوردستان. هناك مدن في كوردستان يتجاوز تعداد سكانها بعض الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ومع ذلك يُحرم الكورد حتى من حق الحكم الذاتي».
أراد السيد دزيي أن يظهر لنا عبر هذه الواقعة أن الزعيم الراحل كان مهتماً برفاهية شعبه ولم يهملها، حتى وهو يعاني من المرض.
ووصف كيف أن البارزاني ألقى خطاباً شاملاً حول الثورة الكوردية والظلم الذي تعرض له الكورد، مع ترجمة من محمد أمين دوسكي إلى الإنجليزية.
ازددت حماساً لمعرفة تفاصيل الأيام الأخيرة للبارزاني اللازمة لاستخدامها في روايتي القادمة، فسألته: «متى تدهورت حالة الملا مصطفى الصحية بشكل كبير؟».
«تدهورت حالته قبل عشرة أيام من وفاته»، أجاب دزيي. وقد أدهشني وضوح ذكرياته، حيث سرد الأحداث التي وقعت قبل 44 عاماً كما لو كانت قد حدثت بالأمس.
«هل دخل بارزاني في غيبوبة؟»، سألته.
«لا، لم يغب عن وعيه أبداً. أمضى الأيام الأربعة الأخيرة من تلك الأيام العشرة، في مستشفى جامعة جورج واشنطن، بعد أن أصبح في حالة صحية حرجة. كان قد أخذ أدويته في المنزل من قبل. وكان قلقاً من تدهور حالته. لكنه لم يطلب أن نأخذه إلى المستشفى. اقترحنا عليه ذلك، فوافق. كنا، ابنه إدريس وأنا، هناك وذهبنا معه إلى المستشفى».
«لم يكن يخاف من الموت، أليس كذلك؟» سألت. عندما يتعلق الأمر برجل قضى حياته كلها يواجه الموت في الجبال والكهوف، وخاض مئات المعارك بقلب شجاع وعزيمة فولاذية، فإن سؤالاً مثل هذا ربما يكون في غير محله، لكنني طرحته.
«لا»، أجاب دزيي على الفور. «كان يقول إن الموت حدث طبيعي! إنه مرحلة تأتي في نهاية الحياة. ولا تحزنوا على موتي».
«كان يدخن الغليون في الصباح، لكنه توقف عن التدخين منذ فترة طويلة قبل وفاته. في اليوم الأخير من حياته، 1 مارس 1979، ولم يكن الفجر قد بزغ بعدُ، كنت وإدريس معه في المستشفى، نتناوب العناية به. استفاق خلال نوبتي، وفتح عينيه وقال: لماذا لا تنام يا محسن؟».
«أجبت بأنه لا يمكنني النوم. فقال: لا تكونوا مشغولين بي كثيراً. بقيت لي ساعات قليلة ثم سأغادر هذا العالم».
«بعد هذه المحادثة القصيرة، وصل أحد الأطباء وأجرى الفحوصات، وفاجأنا بإبلاغنا بأن حالته مستقرة وأنه يمكننا المغادرة. عندما تم تقديم الطعام، تناول منه بمتعة، فأشرقت وجوهنا بالفرح. وقال مازحاً: أعلم أنكم تفرحون عندما آكل. سآتي على كل هذا الطعام لأجلكم».
ثم أكمل دزيي حديثه قائلاً: «كان إدريس وأنا سعيدين وقررنا شراء تذاكر طيران للمغادرة في اليوم التالي. أبلغنا وزارة الخارجية الأمريكية بذلك قبل مغادرتنا المستشفى. وكان أحد السفراء قد طلب مني الاتصال به إذا احتجت إلى نصيحة أو إذا حدث شيء مهم. اتصلت به وأوضحت له الوضع وأخبرته أننا سنغادر. انتظرنا وصول ممثلة من الوزارة قبل أن نغادر».
«جلس بارزاني في سريره لمدة ساعة وتحدث إلى ممثلة وزارة الخارجية عن خيانة أمريكا للشعب الكوردي. ثم غادرت المسؤولة، وجاء محمد سعيد دوسكي وفرهاد ابن لقمان، حفيد الملا مصطفى، للاعتناء به بينما خرجنا، إدريس وأنا، لحجز التذاكر».
في ذلك المساء، وبينما كانا يخططان للعودة إلى المستشفى، تلقيا مكالمة من فرهاد، ابن لقمان، يطلب منهما العودة على الفور. وللأسف، عند عودتهما، اكتشفا أن البارزاني قد فارق الحياة.
عندما وصل دزيي إلى هذه النقطة في الحديث، غمرنا الحزن. إذاً، كانت الأسطورة، بارزاني، قد رحل؟ كانت تلك آخر معركة له في الحياة. خاض العديد من الحروب وحقق النصر فيها. نال دعم العالم كله لقضية الكورد. ولكن لا بد أن هناك يوماً أخيراً في حياة كل إنسان. أما بالنسبة له، فكان ذلك يوم الخميس الأول من مارس 1979.
قال دزيي إن وصية البارزاني كانت أن يُنقل جثمانه إلى بارزان، وإذا لم يكن ذلك ممكناً، فإلى كوردستان الإيرانية.
في هذه اللحظة، لم يعد لدي أسئلة لأطرحها. كانت المقابلة قد انتهت. نهضنا وودعنا الرجل الذي كان مع ملا مصطفى بارزاني في لحظاته الأخيرة. نظرت في عينيه أثناء مصافحته. تخيلت كل اللحظات الحزينة والمقلقة والمليئة بالأمل التي مرّ بها في الأسبوع الأخير من العناية بالبارزاني.
تخيلت البارزاني وهو يودع العالم للمرة الأخيرة، بعيداً عن وطنه الذي حارب من أجله ومن أجل شعبه لأكثر من نصف قرن. تخيلت الألم في قلب بارزاني والأحلام التي كان يحملها آنذاك. ملأت خيالي بكل ما أحتاجه لكتابة مقدمة روايتي الجديدة. وعندما عدت من هذه الزيارة، شعرت كأنني زرت البارزاني شخصياً، رأيته وهو يراقب الجبال البعيدة بعينيه الحادتين، المملوءتين بالأمل، في معقله في بارزان.
محسن دزيي سياسي كوردي مخضرم وكان عضواً أساسياً في اللجان الكوردية للتفاوض مع الحكومة العراقية بين عامي 1965 و1966، خلال فترة حكم عبد الرحمن البزاز.
بعد ثورة يوليو 1968، شغل دزيي منصب وزير إعمار الشمال في الحكومة العراقية بقيادة عبد الرزاق النايف. ومن أغسطس 1973 إلى نوفمبر 1974، شغل منصب وزير الأشغال العامة والإسكان، مما يدل على التزامه بتطوير البنية التحتية لمنطقة كوردستان العراق والعراق ككل.
ومع تطور الظروف السياسية، انتقل إلى الحركة الكوردية المسلحة، مما أظهر التزامه بالقضية.
جان دوست: شاعر وروائي ومترجم كوردي صدر له العديد من الكتب والروايات