ما أن يتطرق إلى السامع أو القارئ ذكر اسم قضاء كفري إلا ويتبادر إلى الذهن كل عناوين الأصالة والعراقة والشهامة لمدينة هي رمز للتعايش السلمي لكافة المكونات التي عاشت في المدينة سابقاً أو في الفترة الحالية. لم يزرها شخص إلا وقد أحبها وأحبت أهلها، مدينة تتعانق معها التاريخ والآثار والفن والشعر والحياة، اليوم هي بأمس الحاجة لنفض غبار التهميش والإجحاف بحقها لما تعرضت لها من جور الأنظمة المستبدة حتى عام 1991 خلال حقبة النظام الشمولي الديكتاتوري البعثي.
تاريخ المدينة
يؤكد أغلب المصادر التاريخية قدم قضاء كفري وهي أحد أقضية إدارة گرمیان المستقلة تد محافظة السليمانية، ويُرجع بعض من المؤرخين نشأة المدينة إلى العهود السومرية والآشورية لمراحل زمنية قد تمتد إلى ثلاثة آلاف سنة ماضية بحسب قدم تاريخ الحضارات الآشورية والبابلية والسومرية. أما حول تسمية المدينة بهذا الاسم، فهناك رأيان وهما:
كما وكانت للمدينة أسماء أخرى على مرّ الأزمان والعصور قبل أن تستقر على التسمية الحالية. ففي عصر الإيلاميين كانت تطلق على المدينة اسم (كيبرات)، وفي العصر الآشوري (كيرو)، وفي العصر السومري (كيماش)، وفي العصر الروماني (فرجيا). أما أثناء الحكم العثماني فقد أطلقوا على المدينة اسم (الصلاحية)، وبإنشاء الحكومة العراقية في عام 1921 تغيرت اسمها من جديد إلى (كفري) لتستقر في النهاية على هذا الاسم.
مر بمدينة كفري العديد من الرحالة والمستشرقين الأجانب الذين دوّنوا اسم المدينة وأخبارها في مذكراتهم، ومن هؤلاء نذكر منهم نيبور وجيمس بيكنهام وكلوديوس ريج وجيمس بيلي فريزر.
كانت لمدينة كفري أهمية كبيرة في الحركة التجارية خلال القرون المنصرمة، نظراً لعمقها الاستراتيجي ووقوعها على الخط الرئيسي لمرور القوافل التجارية بين مدينة السليمانية وولاية بغداد من جهة، والخط التجاري لولاية الموصل وكركوك وبغداد من جهة أخرى. وقد كانت توجد في سوق القيصرية العديد من الخانات الكبيرة التي كانت بمثابة دور الاستراحة للتجار والقوافل التجارية العاملة.
مدينة الوزراء والأعيان
تشتهر مدينة كفري بماضيها السياسي الناصع. وقد ساهم أبناؤها في بناء الدولة العراقية الحديثة عبر تشكيل المملكة العراقية سنة 1921. ولهذا تسنم عدد من أبناء كفري المناصب الوزارية في الحكومات العراقية المتعاقبة منذ ثلاثينات القرن الماضي، وإلى حد عام 2003.
ومن بين هؤلاء، عمر نظمي (1893 - 1978) الذي تقلد 25 مرة منصب وزير في وزارات (المواصلات والأشغال والداخلية والعدلية والدفاع). وجمال عمر نظمي (1914 - 1967) الذي تقلد منصب وزير الزراعة عام 1957. ومحمود بابان (1920 – 1997) الذي تقلد منصب وزير الصحة عام 1957 في حكومة عبد الوهاب مرجان.
أما في العهد الجمهوري بمراحلها المختلفة (1958 – 2003)، فقد تقلد الدكتور مكرم الطالباني منصبي وزير الري عام (1972)، ووزير النقل عام (1977). و تقلد أميد مدحت مبارك منصب وزير العمل والشؤون الاجتماعية عام (1989)، وبعده أصبح وزيراً للصحة خلال أعوام (1991 – 2003)، بالإضافة إلى العشرات من الوجهاء و الشخصيات السياسية والاجتماعية الذين تبوؤا مناصب برلمانية وإدارية في الحكومات العراقية المتعاقبة.
دور كفري في الحركة التحررية وقصة الزعيم مصطفى البارزاني
مع انطلاق حركة التحرر الكوردية في بدايات القرن العشرين، كانت لمدينة كفري وأبنائها المناضلين الدور الريادي وأسبقية الانخراط في الحركة التحررية. ففي عام 1920 رفع القائد إبراهيم خان الدلوي راية المقاومة ضد الاحتلال البريطاني، وحرروا مدينة كفري وأحكموا السيطرة عليها لنحو أشهر عدة معلنين تأسيس مجلس محلي لإدارة شؤون البلدة.
في أيلول عام 1922، كان جماهير كفري ينتظرون بفارغ الصبر وصول الشيخ محمود الحفيد ومكوثه في المدينة لأيام في ضيافة عائلة محسن آغا بعد إطلاق سراحه من منفاه الإجباري في الهند. وحل الشيخ أحمد البارزاني ومعه ثلة من المناضلين البارزانيين ضيوفاً كراماً على أبناء مدينة كفري لعدة أشهر. وعندما أراد ضابط المخفر في كفري حجز البارزانيين في قشلة كفري، امتعض وجهاء كفري للأمر وعرضوا أن يُؤْجِّرُوا عدة منازل تليق بمقام الشيخ أحمد البارزاني ورفاقه. وقالوا لقائمقام كفري ومعاون الشرطة إن أخلاق أبناء مدينة كفري لا تسمح بحجز الشيخ أحمد البارزاني ورفاقه في القشلة ومعاملتهم كسجناء. لذا اقترحوا استضافتهم في منازل وليس حجزهم في القشلة العسكرية، وبلغ مدى صلابة وقوة مبادئ أبناء كفري في النضال والحرية أن يفضل أحد بيشمرگة كفري أن يُعدم ويُسحق جثمانه تحت زناجير دبابة عسكرية على أن يسب الزعيم الملا مصطفى البارزاني.
شلتاغ ومهد المقامات العراقية
عندما يجلس أحد منا في زاوية هادئة ويفتح المذياع لتطرب أسماعَه نغماتٌ من المقام العراقي فيحن لسماع أصوات محمد القبانجي أو يوسف عمر أو ناظم الغزالي، يغوص عميقاً في أعماق الطرب العراقي الأصيل. لكن هل يعرف السامع والقارئ أن مهد المقامات العراقية كان من مدينة كفري؟ وإذا كان المؤرخون يؤكدون دوماً الدور الريادي والبارز للملا عثمان الموصلي في وضع اللبنات السليمة للمقام العراقي في القرن التاسع العشر الميلادي، فإنه قد لا يعرف معظم الناس أن الملا عثمان الموصلي كان أحد تلامذة رحمة الله شلتاغ، قارئ المقام الكبير، وهو من مواليد مدينة كفري في عام 1793، وانتقل إلى بغداد مع والده سلطان آغا وعمه نعمان آغا الذي تسلم منصب قائممقامية الكاظمية. وفي بغداد أدى جميع أنواع المقامات العراقية، وهو أول من ابتكر مقام (التفليس). وتوفي رحمة الله شلتاغ في بغداد عام 1871، وللأسف لا تمتلك أرشيف المقام العراقي أي تسجيلات صوتية له.
ومن رواد المقام كذلك، الملا عبد الرحمن ولي (1774 – 1830) الذي يُعد أستاذ رحمة الله شلتاغ. وفي القرن العشرين كان الملا عبد الله الخطيب من أشهر قراء المقام العراقي الذي توفي في منتصف أربعينات القرن الماضي، وقد أُعجب بصوته كل من محمد القبانجي ويوسف عمر.
مدينة الآثار والتراث
يتميز قضاء كفري بكثرة المناطق الأثرية والتراثية القديمة التي أضفت طابعاً خاصاً للمدينة يميزها عن باقي المدن الأخرى. فلو ألقينا نظرة على الطراز المعماري للمنازل التراثية في كفري، فإنه يعيد المرء إلى بدايات القرن الماضي عندما كان (سوق القيصرية)
يعج بالناس والمتبضعين لتأمين احتياجاتهم اليومية. ومنهم من كان يقضي أوقاتاً ممتعة في (باخي باشا) وفي تأمل (قصر مجيد باشا البابان) وبالمرور تحت (طاق آلتي) للسباحة في مجرى (قوشه جابان) عند مضيق (بوغاز) ومياهه العذبة.
وفي كفري كان يوجد 30 طاحوناً تعمل بالماء حتى منتصف القرن الماضي لتحل محلها مكائن تعمل بالكهرباء والديزل.
الكورد والتركمان... نموذج للتعايش السلمي
من يزور مدينة كفري لأول مرة يستغرب مدى قوة ومتانة العلاقات الصميمية بين الكورد والتركمان فيها ومدى ارتباطهم الاجتماعي في كل مجالات الحياة اليومية لمواطني البلدة. فهم يتكلمون فيما بينهم بلغة الآخر من دون أية حساسية قومية. وفي هذه المدينة الصغيرة تبلغ قوة العلاقة أوجها في العلاقات الأسرية وكثرة نسبة المصاهرة العائلية بين القوميتين، فعندما يتقدم شاب من أسرة كوردية أو تركمانية لخطبة فتاة من القومية الأخرى لا يجد أية موانع تعيق الزواج. ولطالما يفتخر تركماني بأن أخواله من الكورد أو يعتز شاب كوردي بأن أخواله وجدته من التركمان.
وتبلغ قوة تلك العلاقة أثناء المناسبات الاجتماعية، وخصوصاً في المآتم ومراسم العزاء، فتشاهد قاعات العزاء تختلط بكل القبائل والشخصيات الاجتماعية من دون أن يسأل أحد ما عن سبب حضور كل تلك الشخصيات والناس.
رفعت محمد رشيد: كاتب وباحث في الشؤون التاريخية