فوق تلة على ارتفاع 650 متراً عن سطح البحر وعلى بعد حوالي 65 كلم غرب مدينة حمص و75 كلم جنوب شرقي مدينة طرطوس، تقع واحدة من أشهر القلاع التي ما زالت صامدة حتى يومنا هذا تحكي وتحاكي تاريخاً عريقاً مرّ على هذه المنطقة وترك آثاره عليها. وكان لموقعها أهمية استراتيجية وعسكرية كبيرة من خلال تحكمها بالممر الاستراتيجي في حمص، الذي اعتبر نقطة تحكم غاية في الأهمية. فمن يسيطر عليه يمكنه التحكم بسوريا وعزلها عن المنفذ البحري، وهذا ما يفسر المعارك الكثيرة التي دارت حول هذه القلعة والمحاولات المستميتة للسيطرة عليها. ونظراً لأهميتها التاريخية سجلت على قائمة التراث العالمي عام 2006.
سبب التسمية
تشير أغلب المصادر وتكاد تتفق المراجع التاريخية على تسمية الحصن الذي نتحدث عنه باسم «حصن الأكراد» على ما ذكره ابن شداد في كتابه «الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة»: «وأما حصن الأكراد فحكى منتجب الدين يحيى بن أبي طيء النجار الحلبي في تاريخه، في سبب نسبته إلى الكورد: أنّ شبل الدولة نصر بن مرداس صاحب حمص أسكن فيه قوماً من الكورد في سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة فنُسب إليهم».
وجاء ذكر «حصن الأكراد» في كتاب «البداية والنهاية» لابن كثير «فنزلوا على حصن الأكراد يوم الثلاثاء تاسع عشر رجب، وله ثلاثة أسوار، فنصبوا المنجنيقات ففتحها قسراً يوم نصف شعبان». بينما تشير مصادر أخرى إلى أنّ سبب التسمية تعود إلى أنّ الحصن تم تشييده على أنقاض حصن كوردي قديم. وهذا ما ينفي محاولة البعض إرجاع التسمية إلى الفترة التي شنّ فيها السلطان صلاح الدين حروبه ومحاولاته السيطرة على الحصن. ذلك أنّ التسمية وفقاً لابن شداد تعود إلى عام 422 للهجرة (1031 ميلادي)، بينما تم حصار الحصن من قبل صلاح الدين الأيوبي في عام 1188 ميلادي، الأمر الذي يؤكد على قدم الوجود الكوردي في تلك المنطقة وفي الحصن على وجه التحديد. ولا يزال الكورد موجودين في المنطقة المحيطة بالحصن حتى يومنا هذا في بلدة الحصن التي تضم خليطاً متنوعاً من الأعراق والأديان بما فيها الكورد.
أحداث الحصن عبر التاريخ
تعرض الحصن لكثير من الحوادث التاريخية وتعاقبت عليه العديد من السلطات إن صحت التسمية، فمن حصن كوردي إلى صليبي إلى مقر ملكي وصولاً إلى العصر الحديث حيث حظيت القلعة بعناية كبيرة أثناء الانتداب الفرنسي على سوريا وتحولت إلى مقصد للسياح الفرنسيين والأجانب، لتتحول بعد الاستقلال إلى واحد من أهم المواقع الأثرية السياحية في البلاد، إلا أنّ الحرب التي دارت في سوريا في العقد الأخير لم تكن بمنأى عنها، إذ طالها الكثير من الخراب والدمار بسبب الأعمال القتالية التي دارت داخلها وفي محيطها.
وقد تركت الطبيعة أيضاً بصمتها على تاريخ الحصن الشهير، إذ تعرض لزلزال مدمر عام 1157 للميلاد. أما الزلزال الذي ضرب المنطقة عام 1169 للميلاد فكان الأشدّ دماراً ولم يُبقِ من القلعة شيئاً. فلا أسوار بقيت ولا جدران صمدت أمام غضب الطبيعة. ليعيد الصليبيون بناءها وترميمها، الأمر الذي اعتبر بداية لعمليات تحصين القلعة التي استكملت بعد الزلزال الثالث الذي ضربها عام 1201 للميلاد حيث بدأ العمل على إعمار القلعة وتحصينها وإضافة ثغور دفاعية وغيرها من إضافات ما زالت قائمة حتى اليوم.
بقي الحصن بيد الصليبيين إلى أن حاول السلطان المملوكي الظاهر بيبرس عام 1267 السيطرة عليه وتحريره من الصليبيين بعد أن تمكن من الاستيلاء على كافة الحصون والقلاع المجاورة. ولم يتمكن بيبرس من ذلك إلا في السادس من نيسان عام 1271 ميلادي حين أعلن عن فتح القلعة ودخلها الظاهر بيبرس الملقب بأبي الفتوح، وأمر بتجديدها وإعادة بناء ما تهدم، لتلعب القلعة لاحقاً دوراً بارزاً في تزويد الحجاج بالمؤن نظراً لوقوعها على طريق الحج إلى القدس.
عمارة الحصن
«حصن الأكراد»، أو ما بات يعرف بقلعة الحصن، خير مثال على العمارة العسكرية للقلاع، فقد بنيت وفقاً لأحدث هندسات الدفاع في ذلك الزمن، وتمتاز بموقعها الحصين فهي تتربع على هضبة مرتفعة من سلسلة جبال الساحل، وتتألف من سلسلتين من الأسوار يفصل بينهما خندق مائي من الجهة الجنوبية، ممتدة على مساحة 240 متراً بين الشمال والجنوب و170 متراً شرقاً وغرباً، وترتفع أسوارها لتصل إلى 270 متراً عن سطح البحر الذي يمكن رؤيته من أعلى أسوارها، وتشرف أبراجها الأخرى على سهل البقيعة وقسم من طريق حمص طرطوس وحمص طرابلس.
وتحتوي القلعة على الكثير من الأبنية والأجزاء التي ما تزال قائمة حتى اليوم ويمكن للزائر أن يستكشفها، ولعل من أبرزها الكنيسة التي تحولت في العهود الإسلامية إلى مسجد، فضلاً عن مخازن المؤن وفرن دائري الشكل لصناعة الخبز. وفيها قاعة الفرسان المبنية وفق الفن القوطي الذي كان رائجاً في تلك العصور، كما يوجد فيها مسرح دائري الشكل وبرج بنت الملك وقاعة ملكية إلى غيرها من تفاصيل تغص بها القلعة كشاهد على الفن المعماري العسكري.
أما الحصن الخارجي للقلعة فيتكون من عدة طوابق، مزود بثلاثة عشر برجاً، منها أبراج دائرية ومربعة ومستطيلة، تحيط به الخنادق إضافة إلى القاعات والاصطبلات والغرف المخصصة للجلوس والمستودعات.
يمكن للزائر ملاحظة وقراءة بعض الكتابات على جدران القلعة بعضها يعود إلى أيام الظاهر بيبرس، حيث تزين واجهة الباب الجنوبية الشرقية وتبدأ بالبسملة. أما النقش الأبرز فهو ذلك المكتوب على واجهة قاعة الفرسان لتذكير الفرسان بمهامهم وتجنب التكبر والعجرفة، وكتب بحروف لاتينية: «إذا مُنحت الوفرة وأُعطيت الحكمة وفوقها الجمال، فلا تدع التعجرف يتسلل إليك، لأنه يطيح بها جميعاً».
ما زال «حصن الأكراد» أو «قلعة الحصن» شاهداً على عراقة هذه البقعة الجغرافية من العالم، ودليلاً قاطعاً على أهميتها وبياناً لا ريب فيه للتطور العمراني العسكري الذي شهدته تلك الحقبة من الزمن، تلك الشواهد تحتاج اليوم إلى الكثير من الرعاية والاهتمام لتعود مكاناً يجذب السياحة ويحكي التاريخ كما يجب أن يُحكى، فلا نبخس حق أحد ممن مرّ عليها ولا يُمحى ذكر أي كان من صفحات التاريخ.
ميادة سفر: كاتبة ومحامية من سوريا