أولى الخطوات في وطن مغلق
أولى الخطوات في وطن مغلق

بعد سنوات طويلةً من منفى بلا عودة، فتح الكورد لنا باباً للوطن. الشاعر فوزي الأتروشي من برلين وأنا من لندن بدأنا ننظم عملية تهريب مثقفين عراقيين كتبوا ورسموا حنينهم الممضّ لوطن مغلق الأبواب. لطالما حلمت بهذا الدخول، لكن الحلم يتحول دائماً إلى كابوس: أدخل الوطن متسللاً تحت ظلمة مطبقة، ثم أفقد الطريق إلى البيت. أجد البيت فأفقد المف... سيأتي النهار، ومعه الوضوح، فأنكشفُ للسلطة التي تترصد خطاي. أفزّ وقد تغطيت بالعرق! كابوسي هو النهار. 

كوردستان التي نتجه إليها كانت خارج سلطة صدام حسن وتحت حماية دولية (No Fly Zone)، مع ذلك كان طريق التهريب إليها صعباً جداً، يمرّ عبر الحدود التركية المتشككةً بكل ما هو كوردي، أو من خلال الحدود السورية بعبور نهر الزاب على زوارق (الكلك). 

أتذكر المشهد كأنه يحدث الآن، حين انفصل الكلك عن الجرف السوري طفنا على الماء.. يجرّنا إليه ويعشي أبصارنا بانعكاس الشمس عليه، يدوّرنا فيضيّع أبصارنا وبصيرتنا بين ضفتين: إلى أين نحن ذاهبون؟ 

واحد منّا غرف الماء بيده وتذوقه وقال لنا مفاجأته: هذا ماء العراق!

اعتيادنا على ماء الحنفيات أنسانا طعم الماء المخلوط برائحة الطين. بين الماء والطين مدّ الكورد أيديهم ليساعدونا، فغادرنا الماء لنضع أول خطوة على أرض الوطن. 

مشينا معهم دائخين من المفارقة بين السؤال والجواب. نحن في أرض «آمنة»، لكن دبابات السلطة المهزومة على بعد سويعات من مكاننا. كل شيء طارئ وغريب.. المكان، الزمان والطرق وهذه السماء المكشوفة الواضحة. المهربون الكورد كسروا الحصار المضاعف وانتشروا على الطرق ليبيعوا النفط ومشتقاته بالبراميل. الرز يباع بأضعاف أسعاره الرسمية وقد أفلت من حصارين، حصار العالم على العراق، وحصار السلطة المحاصرة على الكورد. 

في الفندق الذي نزلنا فيه منعنا الپيشمرگة من مغادرة الباب دونما حماية: 

- مخابرات النطام مندسّة بين الناس في الأسواق. ما زالوا قادرين على اختطاف أو اغتيال معارضيهم.

مع ذلك غافلنا، أنا والشاعر فوزي كريم، حرّاسنا لنرى علامات الوطن الذي انقطعنا عنه. 

في شبكة الأسواق التي تحيط بالقلعة ضعنا في تيار الكورد المتبضعين. نراقب الوجوه من دون أن نتوقف: أيهم المشبوه، ومن شارك في الأنفال؟ ننسى أو نتناسى مشاهد الهروب المليوني للكورد، ننسى كارثة حلبجة والأنفال والضربات الكيمياوية، ننسى المشاهد المروّعة لنتساوق مع الحياة الدائبة المستمرة. وجوه الكورد الأليفة طوتنا وأنستنا الحذر. تيّهتنا ألوان البضائع وروائح التوابل وتيار الوجوه التي تتعدّانا من دون أن ترانا: بين آونة وأخرى نلتفت أنا وفوزي لبعضنا.. هناك سؤال معلق: هل هذا هو الوطن؟! بدا لنا أليفاً وعابراً للزمن، كأننا لم نتغرب أبداً. للتأكيد، أكلنا الكباب من دون جوع وشربنا الشاي على تخوت خشبية، اشترينا الجوز ورحنا نكسر قشرته على الرصيف، وسجلنا وجدنا عند مصور في الهواء الطلق مدّ رأسه داخل كيس أسود لكاميرا خشبية... بين القلعة والسوق جيش من الصرّافين بلا دكاكين ولا جدران، فقط طاولات صغيرة عليها حزم من دنانير عراقية ما تزال تحمل صورة صدام حسين ببدلته العسكرية وعلى وجهه ابتسامة النصر: على من؟

على مسافة أقل من ساعتين من دبابات السلطة تتشكل الدولة هنا بعيداً عن المركز وعلى عناده. الأعلام الكوردية وصور الملا مصطفى البارزاني تباع في الأسوق والطرق العامة تعبيراً عن هوية دفنت تحت التعريب القسري. وتتشكل إدارة كوردية غير متأكدة من الاستمرار. بيوت القادة البعثيين ودوائرهم صارت ملك «العصاة»، كما كان يسمي النظام الپيشمرگة المناضلين. أدخلها بعد تفتيش دقيق بحثاً عن رفاق عرفتهم في الجبل. يخرجون من وراء طاولاتهم باستدارة حادة ليصافحوني. قبل ذلك يزرّرون جاكيتاتهم في حرج من تغيّر الأزمنة والأمكنة والهيئة. بين الجد والمزاح أحذرهم من فخ السلطة، فامتحانها أصعب من حياة الجبل، لأنها تغري الثوار بالفساد تعويضاً عن حرمان الحياة السابقة. 

رفيقي في الجبل، حيدر الفيلي، وقد صار وزيراً للاتصالات، يحاول أن يدهشني بتلفون محمول سيربط كوردستان بالعالم من دون أن يمرّ بالمركز. وزير آخر فتح لي ملفاً فيه رسائل مستثمرين أجانب من كل بقاع العالم. العالم الإسلامي اقتطع مساحات في أربيل والسليمانية لبناء جوامع بدل المدارس. كل المتناقضات تجمعت في كوردستان الواقفة على الخطّ الفاصل بين الواقع والمحال. 

في المساء التقينا في حديقة الفندق، أدباء هربوا من عسف النظام وحروبه المتناسلة، وجاءوا ليحتموا بكوردستان. التقونا نحن القادمين من المنافي إلى قطعة من أرض الوطن. شعراء قرأوا قصائد عن عذابات المنفى والحنين إلى الوطن، يقابلهم شعراء كتبوا عن عذابات الوطن والموت في الحروب.

كوردستان المحاصرة بين الاثنين منحتنا حديقة لنتبادل الحوار بالشعر.


زهير الجزائري : كاتب وروائي عراقي



X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved