«يوم الصلاة الوطني» رسالة أمل من أربيل إلى العالم
«يوم الصلاة الوطني» رسالة أمل من أربيل إلى العالم

في سابقة تاريخية، احتضنت أربيل، عاصمة إقليم كوردستان، «يوم الصلاة الوطني» في 23 نيسان 2025، ضمن فعاليات امتدت لثلاثة أيام تحت شعار «نحو الوحدة في الإيمان». وشهد الحدث الروحي مشاركة بارزة لأكثر من 600 شخصية دينية وسياسية ودبلوماسية من العراق وكوردستان والعالم.​​​​​​​​​​​​​​​​

وتعود فكرة «يوم الصلاة الوطني» إلى عام 1953، عندما أطلقها الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ليتحول مع مرور الوقت إلى مناسبة عالمية تجمع أتباع مختلف الديانات والثقافات، متجاوزين خلافاتهم التاريخية، في تأكيد على إمكانية التعايش والتآخي.

وتميزت النسخة الكوردستانية من هذا الحدث العالمي باحتضانها لجميع الأديان من دون استثناء، متجاوزة النموذج التقليدي الذي اتبعته دول أخرى بالتركيز على دين أو قومية واحدة، في تجسيد للروح الحقيقية للإقليم الذي لطالما كان واحة للتنوع والتعايش.

بارزاني: كوردستان نموذج للتعايش والتسامح

وحضرت مجلة «كوردستان بالعربي» مراسم يوم الصلاة الوطني وخلال المراسم، دعا الزعيم الكوردي مسعود بارزاني إلى ضرورة احترام جميع الأديان، مؤكداً أن جوهر الدين هو الأخلاق وأن التعايش المشترك يمثل ثروة ثقافية تفتخر بها كوردستان.

وأوضح بارزاني أن الهدف الرئيسي من هذا التجمع هو تعريف العالم بثقافة التعايش السلمي وحرية الفكر والمعتقد التي تميز إقليم كوردستان. واستهل كلمته بالتعبير عن تضامنه مع محبي السلام والإنسانية في العالم إثر رحيل بابا الفاتيكان، معرباً عن أمله في أن يساهم اللقاء في تعميق أواصر الأخوة في الإقليم.

وأشار إلى أن «العديد من السبل توصل إلى الحق»، مستشهداً بقول الرومي: «الحق مثل قمة الجبل وهناك العديد من الطرق للوصول إليها لكن الهدف واحد»، مؤكداً أن احترام الأديان المختلفة وقبول الآخر كان جزءاً أساسياً من عقيدة مشيخة بارزان استناداً للآية الكريمة «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا».

واستذكر الزعيم الكوردي الهجمات التي تعرضت لها كوردستان عبر التاريخ، موضحاً أن «الظالمين لم يفرقوا بين أتباع الديانات المختلفة»، وصولاً إلى جرائم «داعش» التي استهدفت جميع المكونات، مشيداً بشجاعة قوات البيشمرگة التي «دافعت عن الجميع بتضحيات بلغت نحو 12 ألف شهيد وجريح».

واختتم بارزاني كلمته مؤكداً أن «المحبة وتقبل الآخر هما السبيل للعيش المشترك بسعادة»، داعياً إلى استمرار تنظيم مثل هذه التجمعات لترسيخ مبدأ الأخوة الإنسانية وتعزيز السلام في المنطقة والعالم.

التنوع مصدر قوة وليس تهديداً

من جانبه، أكد رئيس إقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني أن التنوع الديني والثقافي في الإقليم يمثل مصدر قوة واستقرار وفخر، مشدداً على أن كوردستان أثبتت أنها نموذج واقعي في حماية الحريات الدينية وتعزيز التعايش السلمي.

وقال نيجيرفان بارزاني في كلمته: «نؤمن بأن تعزيز السلام ينبع من الإيمان العميق بقيمة الإنسان واحترام الكرامة الإنسانية من دون تمييز، وهذه القيم تترسخ بشكل كامل عندما يكون هناك دعم وإيمان بها في السياسات العامة والتعليم والعدالة والتعاون بين الأديان والثقافات، ونحن في إقليم كوردستان نعمل عليها بجدية وبدون توقف».

وأضاف أن «التجارب والتاريخ أثبتا أن الحوار الصادق هو أفضل طريق لحل الخلافات وتعزيز الثقة بين الناس»، معتبراً أن هذا النشاط «خطوة جادة نحو ترسيخ أكبر لثقافة التفاهم والاحترام المتبادل، كما أنها رسالة من كوردستان إلى العالم تقول إن «التنوع ليس تهديداً، بل هو مصدر للثراء، ويمكن للمجتمعات أن تعيش معاً بسلام وكرامة عندما تُبنى على الثقة والانفتاح».

كوردستان أرض تعانقت فيها أصداء الأذان وأجراس الكنائس

وأكد رئيس حكومة إقليم كوردستان مسرور بارزاني خلال المراسم أن كوردستان كانت وستبقى أرضاً للتعايش السلمي والتعددية الدينية والقومية، مجدداً التأكيد على الالتزام الراسخ بصون الحرية الدينية وتعزيز دعائم الأمن والاستقرار.

وأوضح مسرور بارزاني أن كوردستان «هي الأرض التي لطالما تعانقت على ثراها عبر العصور أصداء الأذان وأجراس الكنائس وترانيم المعابد»، مشيراً إلى أنها «كانت منذ فجر الحضارة مهداً رحباً احتضنت ثقافات وأدياناً وأقواماً شتى عاشت في كنفها بانسجام واحترام».

واستعرض رئيس الحكومة معاناة شعب كوردستان في تاريخه المعاصر من «تحديات كبيرة لم تفرق بين أبنائه على اختلاف قومياتهم وعقائدهم»، وبالأخص على يد نظام صدام حسين القمعي، وكذلك جرائم تنظيم «داعش» التي استهدفت المواطنين من دون تمييز وشملت حرق الكنائس وتدمير المزارات الإيزيدية.

وأشاد مسرور بارزاني بصمود شعب كوردستان وقوات البيشمرگة التي دافعت عن جميع مكونات المجتمع، مشدداً على أن «البيشمرگة المسلمين قاتلوا جنباً إلى جنب مع إخوانهم الإيزيديين والمسيحيين، وكانوا مستعدين للتضحية بأرواحهم في سبيل ضمان حرية المعتقد للجميع».

وتطرق رئيس الحكومة إلى نموذج مدينة عنكاوا التي تعد «المدينة المسيحية الوحيدة الآخذة في النمو في الشرق الأوسط»، حيث تضاعف عدد سكانها منذ عام 2011، مقدماً إياها كدليل حي على التزام الإقليم بالتنوع والتعايش.

وأكد مسرور بارزاني أن الإقليم يحتضن أيضاً أتباع ديانات أخرى كالكاكائية والزرادشتية واليهودية والبهائية، مشدداً على سعي الحكومة لإنشاء المزيد من دور العبادة بما يضمن لجميع الأفراد ممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية بحرية وأمان.

واختتم رئيس الحكومة كلمته معرباً عن أمله في أن تصبح هذه المناسبة الوطنية تقليداً سنوياً راسخاً، «يعزز أواصر الأخوة وينير دروب الوحدة والإيمان للأجيال القادمة».

كوردستان احتضن آلاف النازحين المسيحيين

وخلال المراسم أعرب الكاردينال لويس رافائيل ساكو عن امتنانه العميق لقيادة إقليم كوردستان على تنظيم يوم الصلاة الوطني، مشيداً بالإقليم لرؤيته الحكيمة في «تجسيد الديمقراطية والسلطة والحكم المدني واحترام القيم والقومية والتعايش المشترك»، مثمناً دور مسؤولي حكومة الإقليم الذين «كانوا دائماً مع جوهر الأحداث المؤلمة».

وأضاف الكاردينال: «لا يمكننا أن ننسى أن إقليم كوردستان احتضن آلاف النازحين المسيحيين»، مشيراً إلى أن المنطقة تعاني حالياً من حروب وصراعات شديدة تتسبب في الموت والدمار، ومثّل للوضع الحالي بما يحدث في غزة، محذراً من أن مثل هذه الأحداث تؤدي إلى «تفاقم الانقسامات وتزيد من تفشي الحقد بين القوى المختلفة وتؤثر سلباً على استقرار المنطقة»

وشدد ساكو على ضرورة تعزيز الحوار للعمل المشترك وإيجاد حلول للمشكلات العالقة، مؤكداً أهمية السعي نحو التقدم والرفاهية من خلال التعاون. كما دعا إلى صياغة قانون جديد «يضمن المساواة بين كافة الأطراف، ومبني على أسس قوية من التنمية والازدهار».

ونوه إلى وجود مشكلات في كيفية التعامل مع الدين، ويرى أن «الأمر لا يتعلق بالدين نفسه، بل بكيفية استخدامه لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية»، مؤكداً أن الله خلق البشر للعيش بسلام وتفاهم، لا ليقتل بعضهم بعضاً.

واستذكر الكاردينال ساكو البابا فرنسيس، واصفاً إياه بأنه «شخصية نادرة» و«الصوت الذي يدعو إلى مواجهة الحرب والحوار من أجل السلام»، مشيراً إلى سعيه لتحقيق العدالة في إطار الدين، واللحظات التاريخية التي جمعته مع شيخ الأزهر عام 2017. وأضاف أن زيارة البابا إلى بغداد عام 2021 كانت تأكيداً على دوره في بناء العلاقات بين المكونات المختلفة والعمل في إطار السلام، حيث قال بعدها: «العراق في قلبي».

وبينما استقبلت أربيل ضيوفها من مختلف أنحاء العالم، بدا واضحاً أن هذا التقليد الجديد الذي سيتحول إلى مناسبة سنوية سيشكل فصلاً مضيئاً في تاريخ المنطقة، وأن إقليم كوردستان ليس فقط موطناً للتنوع الديني والثقافي، بل أيضاً منارة للتسامح في منطقة عانت طويلاً من ويلات التطرف والتعصب.

وفي وقت تمزقه الصراعات والانقسامات في مناطق مختلفة من العالم، تأتي هذه المبادرة لتبعث برسالة أمل مفادها أن الوحدة ليست حلماً بعيد المنال رغم الاختلافات، بل هي واقع يمكن تحقيقه عندما تمتد الأيدي وتنفتح القلوب. وهكذا تضيف كوردستان إلى سجلها فصلاً جديداً كواحة للسلام والتعايش، ونموذجاً يحتذى به في منطقة تتوق إلى الاستقرار والتآخي.​​​​​​​​​​​​​​​​


رياض الحمداني: صحفي ومؤلف عمل في العديد من المؤسسات الإعلامية المحلية والدولية


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved