كيف رأى الرحالة البريطانيون الأوضاع في كوردستان الجنوبية (إقليم كوردستان) مطلع القرن العشرين؟ وكيف استثمرت بريطانيا «كنز» مذكراتهم للسيطرة على كوردستان وبلاد الرافدين؟ وما هي رؤيتهم للمشايخ وعلماء الدين في المنطقة؟ وكيف وصفوا المرأة الكوردية؟ أسئلة تصدى بالإجابة عنها باحث كوردي من خلال جهد أكاديمي متميز تكلل بالحصول على شهادة الدكتوراه.
كنز معلوماتي
وقال الباحث أژي (يحيى) آزاد أبو بكر، إن بريطانيا «أولت بلاد الرافدين بعامة ومنطقة كوردستان بخاصة اهتماماً خاصاً منذ وقت مبكر قبل الحرب العالمية الأولى (28 تموز / يوليو 1914 إلى 11 تشرين الثاني / نوفمبر 1918) فأرسلت مجموعة من عناصر مخابراتها إلى المنطقة بصيغ مختلفة (رحالة، مستشرقين، جغرافيين، علماء آثار، ضباط سياسيين... إلخ.)، للتعرف على طبيعتها وقبائلها وظروفها المعيشية والسياسية وثرواتها»، مشيراً إلى أن بدايات التنقيب عن النفط «تعد من أهم الأسباب التي أدت إلى تكالب الدول الكبرى لاسيما بريطانيا للحصول على موطئ قدم لها في كوردستان العراق فضلاً عن الأهمية الاستراتيجية التي تتمتع بها بلاد الرافدين بعامة».
وأضاف أبو بكر أن مذكرات أولئك العناصر المتعلقة بالمدة التي سبقت الحرب العالمية الأولى «ركزت على التعرف على المجتمع الكوردي وفهم خصائص الشخصية الكوردية ومن ثم تَركَّز الاهتمام لاحقاً أكثر على الجوانب السياسية في السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى ووصول القوات البريطانية إلى بلاد الرافدين وجنوب كوردستان، حيث تراجعت كتابة المذكرات تدريجياً وحلت محها التقارير الرسمية»، مبيناً أن تلك العناصر «تمكنت من جمع كنز من المعلومات مكنت بريطانيا من السيطرة على بلاد الرافدين وكوردستان الجنوبية واخضاعهما لسيطرتها».
وأوضح الباحث أن المبعوثين أو الرحالة البريطانيين «تمكنوا من إقامة علاقات وثيقة مع مجموعة من رؤساء القبائل الكوردية في مختلف مناطق كوردستان بعد أن أتقنوا لغة الكورد واطلعوا على أدق تفاصيل حياتهم. ومن هؤلاء الميجر إدوارد وليم چارلز نُؤيل (Edward William Charles Noel) الذي عده البريطانيون خبيراً في الشؤون الكوردية»، منوهاً إلى أن مذكرات أولئك الرحالة «اعتمدت كمصدر لبعض التقارير الرسمية للحكومة البريطانية عن المجتمع الكوردي مما أثر لاحقاً على السياسة العامة للحكومة البريطانية تجاه الكورد في سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى».
مجتمع قبيلة
وذكر أبو بكر، أن البنية الأساس للمجتمع الكوردي من وجهة نظر الضباط البريطانيين كانت «تقوم على الحياة القبلية والعشائرية، وأن قراءتهم وتفسيرهم للمجتمع والشخصية الكوردية تمحورت حول إطار الحياة القبلية وخصائصها على الرغم من وجود القرى والمدن الكوردية الصغيرة»، لافتاً إلى أنهم أكدوا أن «سمات الحياة القبلية مرتبطة بنحو مباشر بمكونات الشخصية الكوردية ما جعل جزءاً كبيراً من هذه السمات ينبع من هذا النمط الحياتي».
وتابع أنه عند النظر في السمات العامة التي نسبها الضباط البريطانيون إلى الشخصية الكوردية «نجد أن صفات مثل العنف والغيرة والانتقام والرغبة اللامحدودة في حمل السلاح كانت تعود في معظمها إلى عادات القبائل البدوية وشبه البدوية. بمعنى آخر، بما أن غالبية المجتمعات الكوردية كانت تعتمد على القبيلة كأساس فقد عُممت هذه الصفات على غالبية الكورد ليس فقط في كوردستان العراق فحسب، إنما في أجزاء أخرى من كوردستان أيضاً. هذا في وقت كانت فيه القبائل وسكان المدن وبعض شبه البدو والقرويين يتمتعون بخصائص أقل عنفاً وكانوا يسعون إلى حياة مستقرة واقتصاد مستدام على عكس البدو»، مستطرداً أنه كان لشيوخ الطرق الصوفية «أهمية خاصة لدى الضباط البريطانيين بسبب خلفيتهم التاريخية والدينية ومكانتهم بين الناس حيث اكتسب أولئك الشيوخ من وجهة نظر أولئك الضباط مكانة اقتصادية وسياسية من خلال تأثيرهم العائلي واستغلال بساطة عامة الناس إضافةً إلى وضعهم الديني الذي وظفوه لأغراض دنيوية. وكان الموقف السلبي لبعض الضباط تجاه المشايخ مرتبطاً أيضاً بتوجهاتهم تجاه الدين والإسلام بنحو خاص».
ومضى الباحث أژي آزاد أبو بكر قائلاً: إنه رغم أن أول اتصال بين البريطانيين والكورد «يعود إلى القرن السادس عشر، وإنه قد تزايد عبر القرون، إلا أن الكورد كأمة وكوردستان كموقع جغرافي ظلت غير معروفة للمجتمع الأوروبي حتى أوائل القرن العشرين. وقد استمرت الخصائص العامة عن الكورد التي ظهرت في روايات الرحالة في القرون السابقة خاصة القرن التاسع عشر التي تصفهم كشعب قاسٍ ومتمرد»، مواصلاً أنه مع ذلك «شعر بعض الكورد بنوع من الاغتراب والدونية نتيجة لهذا التوصيف، في حين رأى الضباط أن الكورد شعب أصيل ذو تاريخ عريق».
الكورد والإسلام
أما فيما يتعلق بعلاقة الكورد بالإسلام، قال الباحث إن معظم الآراء «اتفقت على أن الكورد برغم تمسكهم التقليدي بالإسلام لم يكونوا متطرفين وتميزوا بكرم الضيافة والترحيب بالأجانب مهما كانت معتقداتهم»، مشيراً إلى أن «الغطرسة الأوروبية والنظرة المتعالية تجاه الأمم الشرقية تجلت في آراء بعض الضباط الذين وصفوا الكورد بالتخلف العقلي والافتقار إلى الحداثة وانتقدوا مظهر المدن والبلدات وملابسهم لكن بدرجة أقل مقارنة بالأمم المجاورة وكانوا يعتبرون أي سلوك كوردي لا يتوافق مع المعايير الأوروبية متخلفاً وغير واعٍ برغم أنهم حددوا الحياة البدوية والبيئة الجغرافية الصعبة في كوردستان إضافة إلى تأثير الدين والسياسات الحكومية كأسباب لتخلف الكورد».
وأضاف أبو بكر أن البريطانيين «اتهموا مشايخ الطرق الصوفية باستغلال نفوذهم الديني والاجتماعي لترسيخ مكانتهم والحصول على مكاسب مادية وأنهم أشاعوا الخرافات والكرامات غير الحقيقية»، موضحاً أن رؤيتهم للمشايخ «نابعة من الرؤية الأوروبية والسياسة الاستعمارية البريطانية كونهم وقفوا ضد الانتداب البريطاني لاسيما أنهم امتدحوا المشايخ الذين كانت لديهم علاقات ودية معهم وذموا الذين عارضوهم وقاوموهم».
ومع ذلك، والكلام للباحث، فإن «مذكرات الضباط والسياسيين البريطانيين في القرن التاسع عشر تميزت بمحاولة تقديم تفسير متوازن للشخصية الكوردية والمجتمع الكوردي آخذين بالاعتبار العوامل السياسية والبيئية والجغرافية»، شارحاً أنهم «وصفوا جوانب أخرى من الشخصية الكوردية مثل الكرم والصدق والشجاعة في القتال والمساواة الاجتماعية وحرية المرأة بالإضافة إلى السمات العامة التي أوردوها».
تميز المرأة الكوردية
وأورد أبو بكر أن أولئك الضباط «اختلفوا بشأن عدة أمور، لكنهم اتفقوا على إعجابهم بالمرأة الكوردية التي وجدوا أنها أكثر انفتاحاً ومشاركة اجتماعية مقارنة بمثيلاتها في المجتمعات المجاورة (العربية، والإيرانية، والتركية والإسلامية عموماً). بل إنهم بينوا أنها تتمتع بحرية تقارب تلك التي تتمتع بها المرأة الأوروبية»، منوهاً إلى أنهم «عزوا ذلك التميز إلى الحياة البدوية الصعبة والبيئة الجبلية التي تتطلب من المرأة أن تشارك الرجل في كثير من الأدوار فضلاً عن حرية المجتمع الكوردي وتسامح الرجل الكوردي مما أسهم في تمييز وضع المرأة الكوردية عن نظيراتها في المنطقة».
وتابع أنهم لاحظوا أيضاً أن المرأة الكوردية «لم تكن متنقبة وكانت تسهم في إدارة دفة الأمور الاجتماعية بل وحتى السياسية»، مدللاً على ذلك بأنهم «أوردوا مجموعة نساء كورديات أسهمن في قيادة المجتمع مثل عادلة خان في حلبجة، وهي زوجة عثمان باشا الجاف، والتي تعد نموذجاً للمرأة الكوردية ذات التأثير الاجتماعي والإداري والسياسي، لا في حلبجة فحسب، بل في مناطق السليمانية كافة، ومثل رابعة خان التي تنتمي لقبيلة البرزانيين المعروفة وكانت مسؤولة نقابة الخبازين في السليمانية خلال الاحتلال البريطاني، وفاطمة خان التي كانت زعيمة لقبيلة الكاكائية في رانية ولعبت دوراً مهماً في النضال من أجل حقوق الكورد وكانت تُعتبر رمزاً للقوة النسائية في مجتمع تقليدي وشاركت في العديد من الأحداث المهمة التي شكلت تاريخ المنطقة».
وفي كل الأحول تنطوي مذكرات الضباط البريطانيين الذين زاروا المنطقة بداية القرن العشرين على أهمية خاصة لتأثيرها اللاحق على السياسة البريطانية تجاه الكورد في سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى، ولكونها تمثل مصدراً مهماً للدراسات الكوردية، نظراً لندرة الروايات والمصادر الكوردية في ذلك الوقت، مما يجعلها ضرورية لكتابة التاريخ الكوردي، على الرغم من نقاط ضعفها والانتقادات الموجهة لبعض الضباط الأوروبيين وآرائهم الأحادية ضمن الإطار العام للشرق، والتزامهم بالمركزية الأوروبية والرؤية الدونية للشعوب الشرقية.
يُذكر أن عنوان أطروحة الباحث أژي آزاد أبو بكر هو «جنوب كوردستان من منظور الضباط البريطانيين في مطلع القرن العشرين» وأنه حصل عليها من قسم التاريخ في كلية العلوم الإنسانية جامعة السليمانية
أسماء الضباط البريطانيين الذين زاروا كوردستان
باسل الخطيب: صحفي عراقي