أربيل عاصمة الشعور ومأوى الحنين
أربيل عاصمة الشعور ومأوى الحنين

حين زرتُ أربيل لأول مرة في ربيع 2018، لم أكن أبحث عن وجهة سياحية بقدر ما كنت أبحث عن شعور، عن حالة، عن معنى يشبه الحنين، رغم أنه لا جذور لي هناك.

كان قلبي قد سبقني، قبل جوازي وحقائبي، قبل أن أسأل أي صديق كوردي عن الطقس أو الفنادق. جئت من دولة الإمارات، من رمال جزيرة العرب ولهجاتها، أحمل داخلي حباً متراكماً للناس والثقافات، وفضولاً إنسانياً لا ترويه المدن المألوفة.

تزامنت زيارتي مع أعياد نوروز، وكانت المدينة تحتفل كمن وجد نفسه أخيراً. النار تعلو الجبال، الناس يرقصون الدبكة الكوردية بملابسهم الزاهية، كأنهم لوحة من الزمن، أو صفحة من ملحمة لم تكتمل.

رائحة البدايات كانت في الهواء، وفي العيون، وفي ضحكة الأطفال وهم يوزعون ابتساماتهم على الغرباء. لم أكن غريباً هناك. منذ اللحظة الأولى، شعرت أنني واحد منهم، وردّدت معهم لأول مرة: Newroz pîroz be (نوروز مبارك)، وكأنني أقولها منذ الطفولة.

في تلك الليلة، كانت الجبال التي تحيط بأربيل تبدو أقرب إلى أرواح حارسة منها إلى تضاريس. وقفت أتأمل النار التي اشتعلت في القمم، وأدركت أن هذا ليس احتفالاً عابراً، بل طقس قديم، ميثولوجيا حيّة، ترسّخت في الجغرافيا والوجدان.

كان الناس يغنون، لا لينسوا الألم، بل ليؤكدوا الحياة. وتلك القدرة على الفرح رغم التاريخ، على الرقص رغم الشقاء، جعلتني أُعيد النظر في مفهومي للكرامة الإنسانية، وأن في قلب كل كورديٍ يعيش كاوا الحداد.

جلست في مقهى «مچكو»، هناك في سوق القلعة، حيث الجدران تحكي، والهواء مشبع برائحة التاريخ والشاي الكوردي. كان المكان يتسع لذاكرة لا أعرفها، لكنها تشبهني.

وهناك، في هدوء اللحظة، سمعت لأول مرة صوت حسن زيرك وهو يردد رائعة نوروز الخالدة. لم أفهم كل الكلمات، لكنني شعرت بها. كان صوته يحتفظ بشجن يشبه الخليج، بحنينٍ يُغنّى ولا يُفسَّر.

في أحد المساءات الهادئة، دعاني صديق كوردي إلى أمسية موسيقية في ركنٍ خافت من المدينة، بعيداً عن ضجيج المراكز التجارية وضوء اللافتات الحديثة. 

دخلت المكان فوجدته بسيطاً، دافئاً، كأنّه بيت قديم تحوّل إلى معبدٍ للصوت. جلسنا على وسائد أرضية، وكان العازفون يرتدون أزياء كوردية تقليدية، يُمسكون بآلاتهم كما يُمسك الشاعر بقصيدته الأولى.

بدأ العزف. تناغمت دقات الطبل مع أنين الـ«بزق»، وانطلقت الأصوات وكأنها تنقب في قلب الأرض. لم أكن أفهم كل الكلمات، لكنني شعرت بها، كما يُحسّ المرء بالنداء الخفي وهو يمر قرب قبر يعرفه القلب ولا يعرفه العقل. كانت الموسيقى هناك لا تُقدَّم كفنّ للترفيه، بل كلغة قديمة، كلغة أرادت أن تنجو من المحو، فاختبأت في الأوتار وفي الحناجر، وراحت تُغنّى من جيل إلى جيل.

المذهل في تلك الليلة لم يكن فقط جمال الغناء، بل كيف حافظ هذا الشعب على موسيقاه وسط عالم يركض نحو النسيان. رأيت شاباً في العشرينات يعزف على الدفّ بجوار رجل في السبعين، وكلٌّ منهما يعرف إيقاع الآخر من دون أن يتبادلا كلمة. الأصالة لم تكن حالة تجمّد، بل حياة تتحرّك، تتجدّد. حتى الأغاني الجديدة التي كُتبت باللهجة الكوردية الحديثة كانت تحمل في نغمتها الأولى صدى أغنية قديمة، كأن الزمن حلقة لا تنكسر.

ووسط هذا العالم الصوتي، كان هناك ما يشبه الحوار بين الحداثة والتراث. كانت بعض المقطوعات تُدمج فيها آلات غربية: غيتار هنا، وكمان هناك، لكن الروح كانت كوردية خالصة. لا شيء بدا غريباً، بل كأن الزمن نفسه جلس معنا، متصالحاً مع تنوّعه، وممتناً لأن أبناءه لم يختاروا بين الأصالة والحداثة، بل جمعوهما في حضن واحد.

في تلك اللحظة، شعرت بأن الموسيقى الكوردية ليست مجرد ألحان تُعزف، بل ذاكرة تُستعاد. صوت حسن زيرك كان لا يزال حاضراً، كما لو أنه يراقب من نافذة في الجبل، يبتسم حين يسمع اسمه يُردَّد، ويطمئن أن صوته لم يضِع. وشعرت أنني، من دون أن أدري، أصبحت جزءاً من هذا الامتداد، من هذا الحبل السري الممتد بين أرواح الناس وأصواتهم.

بعدها، تعرفت على قصائد (فائق بێکەس)، فوجدت في كلماته مفاتيح لفهم هذه الأرض: الحب، الخذلان، الانتماء، والحرية، مجتمعة في بيت شعر.

في السوق ذاته، اشتريت دفتراً صغيراً. غلافه مصنوع يدوياً، وصفحاته تحمل خشونة الورق القديم. وقررت أن أدوّن فيه كل ما لم أستطع قوله.

تلك المشاهد العابرة، ضحكة الشيخ المسن وهو يصب الشاي، صدى الخطوات على الحجر، عطر البهارات الذي يتبعك من متجر إلى آخر. لم تكن مجرد ملاحظات سياحية، بل محاولات لالتقاط لحظة حقيقية من الزمن، قبل أن تمضي.

ومن تلك اللحظة، بدأت رحلتي مع اللغة الكوردية. لم أتعلمها في قاعة دراسية، بل التقطت كلماتها من سائقي التاكسي، من باعة السوق، ومن الأطفال في الأزقة. كانت «سوپاس» أكثر من شكر، كانت امتناناً ناعماً، وكانت «بەخێر بێی» أكثر من ترحيب، بل اعتراف: «هذا بيتك».

ثم كانت النرجس. زهرة لطالما ارتبطت في ذهني بالأنانية، بأسطورة نرسيس، لكنها في أربيل حملت معنى آخر. كانت تُباع في الشوارع، تُهدى، وتُزرع في العتبات. صارت رمزاً للربيع، للنور، للتجدد. قالت الشاعرة چنور نامق: «رغم أن كبرياء زهرة النرجس قد أصابه جرح بسبب الأسطورة، إلا أنها لا تزال تتربع على عرش الأزهار في قلوب شعب كوردستان». وقد صدقت. رأيتها في العيون، في القصائد، وفي يد طفلة أعطتني زهرة نرجس من دون أن تنطق بكلمة.

تلك الطفلة كانت ترتدي فستاناً بسيطاً بلون السماء، وكان في يدها سوار بلاستيكي رخيص، لكن ابتسامتها كانت أغلى من كل شيء. حين أعطتني زهرة النرجس، أحسست أن شيئاً بداخلي يُرمم. لم تقل شيئاً، لكن نظرتها كانت كافية لتقول: «تفضل، هذا النور لك». وفي تلك اللحظة، شعرت أن هذا المكان لم يمنحني فقط مشهداً، بل علّمني درساً في اللطف غير المشروط.

وكما وجدتُ في النرجس رمزاً خفياً للهوية، كذلك كان للرمان والبابونج لغتهما الخاصة؛ لغة الأرض والذاكرة. الرمان، بجلده القرمزي ولبّه المتفجّر، لم يكن مجرد فاكهة تُعرض في الأسواق، بل كان أشبه بترنيمة زراعية، تنبض بتاريخ العائلة والخصب والصبر. يُزرع في حدائق البيوت كما تُزرع القيم، ويُقدَّم في المواسم كرمز للفرح الدافئ والانتماء. رأيته مفروشاً على بسط القرويين كقلوب ناضجة، شاهدة على بيوت ما تزال تؤمن بالموسم، وببركة الأرض حين تُعطي من دون شرط.

أما البابونج، فكان زهرة البراري المتواضعة، التي تُجفّف وتُقدَّم كأنها تعويذة للسكينة. في بياضها رائحة الجدّات، وفي شايها دفءٌ يشبه حضن الأم. لم تكن مجرد عشبة، بل طقس من طقوس الراحة، تسكن الذاكرة الكوردية كرمز للنقاء، ولحبٍ صامت لا يعلو صوته، لكنه لا يغيب.

شعرت أن هذه النباتات ليست مجرد نباتات، بل رواةٌ صامتون لذاكرة الأرض. حضورها في الثقافة الكوردية ليس عشوائياً، بل متجذّراً في التاريخ، في القصائد، وفي تقاليد الضيافة والدواء والغناء.

في الريف، وفي خُضرة الجبال، عرفت الفولكلور لا كتراث، بل كحياة تُعاش. رأيت المطرزات اليدوية، والرقصات التي تُؤدى كأنها صلوات، وقصص تُروى بنبرة من عاشها. وشعرت أن هذه الأرض لم تُفرّط بتاريخها، بل تعيشه. التعايش لم يكن شعاراً، بل خبزاً يومياً، مشتركاً على موائد الفرح والحزن.

ربما كان أجمل ما في الفولكلور هو حضوره في التفاصيل الصغيرة. في أغنية تُغنّى عند الحصاد، في زغاريد الجدّات، في وشمٍ على يد فلاحة تُشير إلى قصة حب منسية. كانت الحياة هناك محمولة على أكتاف العادات، لا تثقلها بل ترفعها. أدركت أن الثقافة لا تُعلَّق في المتاحف، بل تُعاش كل يوم في الريف، في الأسواق، في الأعراس والمآتم.

أنا لا أكتب من منبر سياسي، ولا أتحدث بلسان السائح المنبهر. ما وجدته في أربيل كان أكبر من تجربة. كان لقاءً شخصياً بيني وبين أرضٍ أعادت تعريف المعنى. رأيت في المدينة مرآة أطل منها على روحي، وعلى هذا الشرق الذي نحبه رغم كل شيء. ووردة النرجس في يد الطفلة أصبحت وعداً بأن في هذا العالم أماكن لا نصل إليها، بل نعود إليها، كأنها كانت تعرفنا قبل أن نعرفها.

ولعلّ أجمل ما خرجت به من تلك الرحلة هو هذا الإحساس الصادق: أنك لا تحتاج إلى أن تكون من المكان، كي تنتمي إليه.


إبراهيم بن حاتم: كاتب إماراتي ومؤسس مكتبة الأفندي

 


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved