أزمة العراق بين القدر والقدرة
أزمة العراق بين القدر والقدرة
June 30, 2025

ما تقدم الإنسان يوماً إلا بإرادته، وما تأخر أيضاً إلا بإرادته. فالإرادة الحرة التي تسبقها القدرة هي المحرك الرئيس لتطور الإنسان نحو الأفضل، وما ينطبق على الفرد ينطبق على المجتمع والشعب والأمم. فما تقدم الغرب حتى حصل على الحرية، وما حصل على الحرية إلا بإرادة الرجال الشجعان، وحين حصلوا على الحرية ملكوا ناصية العلم، وحين ملكوا ناصية العلم، وفتحوا مفاتيح فهم الطبيعة. فقادتهم المعرفة نحو فتح آفاق واسعة كانت من قبل من قبيل المستحيلات، فاكتشفوا طاقة البخار فحركوا بها القطارات، وطووا بها المسافات، وواصلوا طريق العلم والتجربة حتى طافوا الكواكب وأتوا بالعجائب في الاتصالات. أما الآخرون الذين ركنوا إلى قدر الطبيعة وظاهرها، واكتفوا بما تمنحهم من عطاياها من دون تكلف أو عناء، فقد تخلفوا بإرادتهم. ومع أن دينهم هم دين عمل، ما عملوا، وإن عملوا عملوا للموت، والموت قضاء مبرم، فهو يأتي عملت له أو لم تعمل، ولا شيء يثمر سوى العمل «الناس مجزيون بأعمالهم؛ إن خيراً فخير، وإن شراً فشر».

وعندما تيقظ العالم الإسلامي ومنه العراق بعد سبات طويل، واطلع على العالم الجديد بثقافته الإنسانية وصناعته المدهشة، وبما فيه من تسهيلات مذهلة للعلاقات بين القريب والبعيد، ومن تنظيمات سياسية وحقوقية تصون كرامة الإنسان رجلاً وامرأة، وتشيع ثقافة حقوق الإنسان وحرياته. وقد حدث كل ذلك من دون أن يكون لدوله أو لشعوبه دور يذكر، لم يقابل هذه النعمة بصحوة تاريخية تجعلهم يسيرون بمثل ما نهجوا ووصلوا. مع أن العقول متساوية وأن في الماضي البعيد كان هناك رجال يفكرون بمثل ما فكروا، والتفكير في الإسلام عبادة، وما حال بينهم وبين الفكر شيء.

لم يتساءلوا لماذا خلق القدر القدرة فيهم؟ فوقفوا عند القدر وعطلوا القدرة، شغلوا بما يجهلون، وحصدوا العقم، وجمدوا قدرتهم العقلية حتى ضمرت ولم تعد تستوعب نتاج عقول آخرين. وقفوا مع نتائج القدر فاستثمروها لا مع فكرة القدر، فتقدموا هم وتأخرنا نحن.

في يوم ما كان هذا العراق يتأمل النتائج ليكتشف عقلاؤه فلسفة الحياة، ونقلوا هذا النهج التأملى إلى مجال الفقه، فصار اجتهاداً مبدعاً وقانوناً يتماشى مع مصالح الناس، وإلى مجال الأدب فصار ارتقاء إلى فهم كلام الله وإلى مجال الكلام والفلسفة، فصار حكمة لا تزال تمد عقول الباحثين بما يغني ولا يستغنى عنه. وكاد يتحول إلى صناعة تحول وجه الأرض لولا أنهم ابتلوا، كما ابتليت الأمم من قبل ومن بعد، بصراعات السلطة والحكم أبعدتهم عن طريق العلم واستخدام القدرة. 

والعراق الحالي، الذي ورث أسوأ ما في تاريخه من الشقاق والزيف، نموذج صارخ لإهمال القدرة والعلم والمدنية، ومثل سيئ للذين يتبعون أسوأ التصورات ولا يتبعون أحسنها، كل يدعي أنه يملك الحقيقة وأنه، كما يزعم، من القدر الإلهي أن يدعو الناس طوعاً أو كرهاً إلى ما يدعيه. فهذا المذهب السني أو ذلك المذهب السني أيضاً لم يترك لغيره متنفس رأي أو فكراً فقد حجز الأرض بما وسعت لنفسه، ولا تسع غيره، والمذهب الشيعي العراقي استنهض تاريخ الصراع العراقي على الحكم، وأكثره ديني مذهبي، ليحثه أكثر على إقصاء الآخر وحشره في زوايا ميتة ما فيها متنفس لكرامة، وكان عليهما أن يعتبرا بكل ما يرويه التاريخ ويلتقطا ما هو مشرق وحسن فيه. ذلك أن الحوادث أعراض، والأعراض تزول، وقد خلد التاريخُ الصالحين وأهلكَ المفسدين، وما تقدم البشر، ولا نمت الحضارات إلا بالعلم وإرادة الرجال الصالحين.

من الثابت علمياً أن الإنسان رهين مصلحته، وللمصلحة المشروعة دور أساسي في الأحكام، شرعية كانت أو قانونية، والمصلحة أيضاً تحرك الاقتصاد وحركة الناس، فما الذي جعل العراقيين يحرقون بيوتهم بأيديهم، ويبددون ما أنعم الله عليهم من الخيرات فيما لا خير فيه؟ 

علموا الناس أن الحضارة لا تبنى من دون شرائع، ولا يستقر بلد لا يسود فيه القانون، سبقوا العالم في فن القوانين منذ شريعة حمورابي، فما الذي جعلهم يستعيضون عنها اليوم بالفتاوى والاستخارات؟ إنها ارتكاس إلى أسفل سافلين، وانتكاس إلى جاهلية الغابرين. والدليل على هذا أنه منذ أبي جعفر المنصور، ومع أن الفقه كان معللاً آنذاك، فكر العراقيون بخطورة تحكم الفتاوى، التي لا يجمعها جامع ولا يحدها دستور، ولا أحد يتنبأ بها قبل صدورها، في مصائر الناس، وضرورة وجود قانون يحمي الناس من حكم اعتباطي لا سند له، فما الذي غير البناء العراقي لينقلب على نفسه؟

فكرتان أساسيتان في هذه السانحة، من الممكن أن يمهد لنا الطريق للإجابة عن السؤال السابق، هما أولا: إن العالم الإسلامي لم يتقارب مع الحضارة الغربية الحديثة، لاسيما ما يتعلق بحرية الإنسان وكرامته سياسة أو قانوناً أو تنظيماً، لظن غالبهم أن إبداع غير المسلمين بدعة وكل بدعة ضلالة. وثانياً: أن الرأي الغالب والشعبي هو أن القدر يعطل القدرة؛ مع أن القدرة غرست لاستثمار ما في القدر من طاقات لإسعاد الإنسان وإعمار الأرض ولعلهم يشكرون.

 


د. محمد شريف: رئيس منتدى الفكر الإسلامي في إقليم كوردستان


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved