«رسالة الخال» وثيقة نادرة أعتز بها
«رسالة الخال» وثيقة نادرة أعتز بها

خلال سنوات دراستي في جامعة السليمانية (1973 - 1977)، لم أكن أدرك أن شخصيات بارزة تربطها صلات عائلية ودينية بعائلتنا كانت تقيم في المدينة، ومن بينهم الشيخ محمد الخال (1904 - 1989)، العالم الديني والقاضي والكاتب الكوردي المعروف بتفسيره الدقيق للقرآن وإسهاماته في الأدب الكوردي.

لكن بعد تخرجي وتعييني أواخر السبعينات، حين بدأت أبحث في مكتبتنا القديمة الغنية بالكتب والمخطوطات، عثرت على وثائق تاريخية ثمينة، بينها إشارات إلى إجازة علمية منحها ملا أفندي (1863 - 1942) للشيخ محمد الخال، ما حفزني على التعمق في تاريخ عائلتي وعلمائها. كتبت للشيخ رسالة بشأن دراسة شخصية ملا أفندي، وأدهشني رده السريع بأسلوب أدبي رائع باللغة الكوردية، ما زلت أعتز به.

رشاد المفتي 1915-1992

 

كان الشيخ محمد الخال صديقاً لوالدي رشاد المفتي (1915 - 1992) ويزور أربيل أحياناً، مفضلاً المبيت في مكتبتنا العامرة بالمخطوطات، حيث دارت بينه وبين والدي حوارات متميزة، وكنت أنا وأخي كنعان المفتي نخدمه خلال زياراته.

أدناه نص رسالة الشيخ محمد الخال مترجمة إلى اللغة العربية: 

السليمانية
12/3/1982
ابن أخي العزيز إحسان رشاد المفتي
بعد السلام، وصلتني رسالتكم وقد أنارت عيني. إن عملكم مبارك وعظيم، وهذا لا يُكتب عبثاً. ينبغي أن تكونوا حذراً كثيراً في هذا الشأن، وأن تتحدثوا عن كل جانب من جوانب حياة المرحوم (يقصد ملا افندى)، وأن تضيئوا من كل زاوية مصباحاً بقوة مائة شمعة، لينير الطريق للقرّاء. أرجو من الله أن تكتبوا شيئاً ثميناً وجميلاً، وأن تُحيوا ذكر هذه الأسرة.
لم أدرس في خدمة الملا أفندي، لكن بعد أن حصلت على الإجازة العلمية في السليمانية، كتبت رسالة للمرحوم طالباً منه أن يمنحني إجازة للبركة، وهو من باب كرمه أرسلها، وأنا إلى اليوم ممتن لهذا الكرم.
أنا الآن أعاني من الشيخوخة والعجز، وأمشي على ثلاث أرجل (يقصد أنه يتكئ على عصاه) وكما يقول المفتي الزهاوي:
من صار يمشي بالعصا من كِبر
آن أوان أن يصير راحلا
أعني الذي على ثلاث أرجل
يمشي على الأربع يمشي عاجلا
إحدى عينيّ أصيبت بالماء الأسود (الجلوكوما) منذ ثمانية أو تسعة أعوام، ولم تعد تبصر. وعيني اليمنى أصيبت بالماء الأبيض (الساد) منذ ثلاثة أو أربعة أعوام، وهي في طريقها للامتلاء، ولا أعلم متى ستمتلئ لكي أُجري العملية.
على أي حال، هذا العمل المبارك سيستغرق ثمانية أو تسعة أعوام حتى يكتمل، لأن مصادر هذا النوع من الأشياء غير متوفرة في كوردستان، ولم يضع أحد قلمه على الورق في هذا الموضوع.
أسلّم كثيراً على والدك. وأنا محرج من الأخ عز الدين (عز الدين ملا أفندى). أقسم بالله العظيم، لم تعد عيني تسمح لي حتى الآن بالمجيء لزيارته، كما لم تسمح لي بالذهاب إلى قبر الشيخ حسام الدين (النقشبندي)، ذلك القبر الذي يقبع الآن فوق قمة جبل (باغە کۆن) في خراب وعزلة، لا يوجد بشر بجانبه ولا عمران قريب منه.
گردش گردون هزاران خاندان باد داد
نه همین بد مهری اش با تست یا با من بود
(ومعني البيت: 
(دورات الكون أطاحت بآلاف البيوت العريقة
لا تتعجب من هذا، فمصير هذه اللعبة سينتهي بي أيضاً)
منذ شهرين وأنا طريح الفراش، وها قد نهضت منذ بضعة أيام. عندما يتحسن الطقس قليلاً، ربما أزور والدك والأخ عز الدين. وأستودعكم الله.
المخلص لكم،
محمد الخال
الشيخ محمد الخال 1904-1989

 

على هامش الرسالة:

  1. الرسائل والوثائق التاريخية:

أحتفظ بثلاث رسائل من الشيخ محمد الخال لوالدي رشاد المفتي كُتبت بين 1975 و1983، إضافة إلى وثيقة رسمية بتوقيعه من المحكمة الشرعية بالسليمانية مرسلة عام 1959 إلى قاضي أربيل، وجدتها في ملف والدي الوظيفي بعد تقاعده عام 1978. قررت نشر هذه الرسائل والوثيقة في مقال منفصل يخصهما فقط.​​​​​

  1. ذكريات ثمينة مع الشيخ الجليل

تمثل رسالة الشيخ محمد الخال (1982) ذكرى ثمينة في قلوبنا، فارقنا بعدها بسبع سنوات. في أواسط الثمانينات، تشرفنا باستضافته في منزلنا بأربيل، حيث زار والدي، واستمتعنا بأحاديث فاضت بالحكمة والرقة. نسج بروحه الطيبة جسوراً من المحبة، فشعرنا جميعاً بقرب روحي عميق تجاهه.​​​​​​​​​​​​​​​​

  1. سبب الرسالة والإجازة العلمية

كان سبب إرسال الرسالة استفساراً من الشيخ حول الإجازة التي منحه إياها ملا أفندي (الملا أبو بكر أفندي 1863 - 1942)، وهو عالم كوردي بارز من أربيل ينتمي إلى أسرة علمية عريقة. منح أكثر من مائة إجازة لعلماء من مختلف أنحاء كوردستان في أجزائها الأربعة، ولعب دوراً مهماً في حل النزاعات القبلية خلال العهد العثماني. نال «وسام الرافدين» من الدرجة الأولى من الملك فيصل الثاني. وهو ابن عم جدي محمد المفتي. وقد حظي الشيخ محمد الخال بإجازة مرموقة من ملا أفندي بعد التثبت من إجازته الأولى في السليمانية، مما يعكس عمق العلاقة بين الأسرتين.

  1. مفتي الزهاوي.. رمز ثقافي عميق

البيتان اللذان ذكرهما الخال في رسالته هما للعلامة محمد فيضي الزَّهَاوِيُّ، فقيه ولغوي ومحدث وعالم مسلم من علماء بغداد، ولد في القرن الثامن عشر في 1793، وهو عميد عائلة الزهاوي في بغداد إذ به التحق لقب الزهاوي بتلك الأسرة، وهي أسرة كردية من سلالة بابان، وكان مرجعاً من مراجع العلم ولهُ مؤلفات في العلوم والحكمة والمنطق وعلم الفلك وعلم الكلام وكان يجيد اللغة العربية والكردية والتركية، ومن المناصب التي تولاها منصب أمين الفتوى في بغداد، ومن قبل ذلك كان مدرساً في المدرسة العثمانية العلية.

  1. الحالة الصحية للشيخ

كشف الشيخ محمد الخال في رسالته عن معاناته من الماء الأسود في عينه اليمنى والماء الأبيض في اليسرى. ورغم فارق العمر الكبير بيننا، إذ كان يقارب الثمانين وكنت في الثامنة والعشرين آنذاك، خاطبني بمودة وعطف، تقديراً لعلاقته الوطيدة بوالدي، ما يعكس تواضعه وسمو أخلاقه رغم تحدياته الصحية.

  1. رسالة شخصية بمعانٍ عميقة

يتجلى لطف الشيخ محمد الخال في رسالته الصادقة، حيث فتح قلبه بكل شفافية. وكأنه يحاول نقل رسالة غير مباشرة إلى والدي، مستعيناً بي كحلقة وصل. يصف بألم حالته الصحية المتدهورة التي منعته من زيارة مرقد شيخه الروحي، الشيخ حسام الدين النقشبندي، في قصبة باغة القريبة من حلبجة. هذه المشاركة الوجدانية تعكس ثقة خاصة منحها لي، في إشارة للمكانة التي يحظى بها والدي في قلبه.

  1. الشيخ حسام الدين النقشبندي

يشير الشيخ محمد الخال في الرسالة إلى الشيخ حسام الدين النقشبندي (الشيخ محمد علي 1861 - 1939)، ابن الشيخ محمد بهاء الدين وأحد أبرز خلفاء مولانا خالد النقشبندي. بعد وفاة والده عام 1881، بايعه معظم الخلفاء كخليفة رئيسي للطريقة النقشبندية، وعاد إلى ناحية (تەوێلە) ليتولى قيادتها حتى وفاته عام 1939، حيث دُفن في (باغه كون).

يعبر الشيخ الخال عن أسفه لإهمال مراقد الشيوخ هناك وعجزه عن زيارتها بسبب وضعه الصحي، ويروي أنه سمع من الشيخ حسام الدين أن له خليفتين: في السليمانية (الشيخ أمين، جد الشيخ الخال)، وفي أربيل (الشيخ علي أفندي، عم جدي). ألّف الشيخ علي أفندي كتاب «سراج الطالبين» في مناقب الشيخ حسام الدين، وتزوج ابنه الشيخ جميل من أخت الشيخ ثم من ابنته، ودُفن في مقبرة الأسرة بباداوه في أربيل.

  1. بلاغة الكتابة وأبيات الشعر

في لفتة بليغة، عبّر الشيخ محمد الخال عن تقلبات الزمان وغدره في بيت من الشعر بالفارسية لمولانا خالد النقشبندي (1779 - 1827) مجدد الطريقة النقشبندية:

(گردش گردون هزاران خاندان باد داد

نه همین بد مهری اش با تست یا با من بود)

وترجمته: «لقد بدّد الزمانُ آلاف العائلات كما تذرو الرياح الغبار… ولم تكن قسوته مقتصرة عليك أو عليّ فقط»، وهذا يعكس المعنى الحقيقي للبيتين، حيث شبه الشاعر فعل الزمان بالرياح التي تذرو الغبار، في إشارة إلى قوة الدهر وتأثيره المدمر على الأسر والعائلات عبر التاريخ.

  1. ذكر الشخصيات المعاصرة

ذكر الشيخ أنه لم يستطع بسبب مرضه زيارة السيد عز الدين في أربيل، ويقصد به العم عز الدين ملا أفندي المولود عام 1916 في قلعة أربيل. اشتغل بالتدريس والخطابة في جامع القلعة محل والده عام 1943، وانتُخب نائباً عن أربيل في مجلس النواب العراقي لعدة دورات، وتقلد منصب وزارة الدولة. توفي عام 1998 ودُفن في مقبرة العائلة في باداوه.

  1. قرية «باغه كۆن»

ذكر الشيخ محمد الخال قرية (باغە کۆن) حيث دُفن فيها الشيخ حسام الدين النقشبندي. تقع في محافظة السليمانية قرب حلبجة في المنطقة الحدودية مع إيران. وصفها بأنها مهجورة وخالية لأنها كانت في منطقة مشتعلة بالحرب العراقية -الإيرانية آنذاك. كان الشيخ يزور المنطقة بشكل دوري، وكان مريدوه في أربيل يزورون القرية بين فترة وأخرى.​​​​​​​​​​​​​​​​

الشيخ محمد الخال ورشاد المفتي وهو يتصفح مخطوطة «كتاب كشكول» للشيخ علي أفندي

 

روابط الخال العلمية مع أربيل

لقد جمعت المحبةُ الأسرتين؛ «المفتي» بأربيل و«الخال» في السليمانية، من الجدود للطريقة النقشبندية ومولانا خالد النقشبندي وشيوخ النقشبندية، وبعده في هورمان وطويلة (تەوێلە) وباغە كۆن. وتولدت بينهما صداقة متينة، وخاصة بين جد الشيخ محمد الخال، الشيخ أمين، الذي تولى تربية الخال في صغره بعد وفاة والده، وبين الشيخ علي أفندي مفتي أربيل (1825 – 1889) (وهو عم جدي محمد المفتي) وابنه الشيخ جميل علي أفندي (1878 – 1919) وكان صهر الشيخ حسام الدين الطويلي النقشبندي.

وانتقلت هذه الروابط إلى الأجيال القادمة. لذا، نرى أن الخال من خلال هذه الروابط، بعد أن نال الإجازة في السليمانية، قد مُنح إجازة فخرية من العالم الكبير (ملا أفندي) وهو ملا أبوبكر ابن الحاج عمر أفندي ابن ملا أبوبكر المشهور بـ«ملا كجكة الأربيلي». هذه الإجازة مدوّنة في مخطوطة من مخطوطات المجاز له وكانت سبباً لكتابة الشيخ محمد الخال رسالته لنا.

وضمن هذه الأجواء التقى الشيخ محمد الخال مع الوالد القاضي رشاد المفتي الذي عُيّن قاضياً في السليمانية عام 1956 – 1957، وتوطدت العلاقة بينهما أكثر وتطورت إلى زيارات متبادلة، وأيضاً زيارتهما معاً لمراقد شيوخ النقشبندية في قرية (باغه كون) في بعض المناسبات.

ونحن توارثنا هذه المحبة والصداقة منهما. لذا، ترانا اليوم بعد نصف قرن نبحث في هذه الجذور والعلاقات وننشر هذه المعلومات، عسى أن تُسنح الظروف لنشر رسائل الخال الثلاث المرسلة لوالدي في مناسبة أخرى.

لقاء الأجيال في مؤتمر السليمانية

في 28 نوفمبر 2024، حضرنا مؤتمراً بجامعة السليمانية تكريماً للشيخ محمد الخال بدعوة من ابنته أختر المقيمة في لندن. وجدّد اللقاء العلاقة التاريخية العميقة بين عائلتي الخال والمفتي. روت لنا أختر كيف كان والدها يذكر صداقته مع المفتي في أربيل وارتباط أجدادنا بالطريقة النقشبندية. تضمن المؤتمر بحوثاً علمية قيّمة بإدارة د. آراس حمه صالح وتنسيق د. چرو شهاب.​​​​​​​​​​​​​​​​

الشيخ محمد الخال

ولد الشيخ محمد بن علي الخال في السليمانية / إقليم كوردستان العراق، منحدراً من أسرة كوردية عريقة تعود بنسبها إلى الشيخ أبو بكر المصنّف. تعلم على يد جده الشيخ أمين، حيث حفظ القرآن ودرس العلوم الدينية واللغوية، متأثراً بفكر الشيخ محمد عبده ورشيد رضا.

التحق بسلك القضاء عام 1939، وتدرج في المناصب حتى تقاعده عام 1967. نال عضوية المجمع العلمي بدمشق (عام 1954) والمجمع العلمي العراقي (عام 1978)، وأصبح نائباً لرئيس المجمع العلمي الكوردي.

قدّم إسهامات بارزة في تفسير القرآن باللغة الكوردية، بدءاً من الجزء الثلاثين (عام 1935)، وفسّر عشرة أجزاء منه. ألّف في فلسفة الدين الإسلامي والسيرة النبوية وتراجم الشخصيات. أغنى اللغة الكوردية بقاموس ضخم من أربعين ألف كلمة، وكتب في الأمثال والقواعد والمصطلحات العلمية. توفي عام 1989، تاركاً مكتبة ثرية تضم 1750 كتاباً بلغات متعددة، أُهديت لمؤسسة «زين» في السليمانية.​​​​​​​​​​​​​​​​


إحسان رشاد المفتي: مستشار قانوني، كاتب وباحث


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved