ندرة المياه تزعزع استقرار المنطقة
ندرة المياه تزعزع استقرار المنطقة
June 30, 2025

هناك طرفة قديمة عن رجل يجلس على غصن شجرة منهمكاً في قطعهِ بالمنشار، غير مدرك أن سقوطه بات وشيكاً بمجرد انكسار الغصن. وفي كثير من الأحيان، تعكس هذه الصورة، بشكل مؤلم، العلاقة الخطيرة بين الإنسان وبيئته، حيث يؤدي استنزاف الموارد الطبيعية إلى تهديد مستقبله بشكل مباشر.

ويتجلى هذا بوضوح في العراق، حيث يُشكّل تغير المناخ وندرة المياه تهديدات وجودية قد تُزعزع استقرار المنطقة وتغير حياة الملايين من الناس. تُثير هذه القضية قلقاً بالغاً في إقليم كردستان العراق، حيث تعاني موارد المياه من شحّها، وقد تُؤدي الظروف المتدهورة لإعادة تشكيل المشهد الديموغرافي بطرق جذرية وغير متوقعة.

أزمة المياه في العراق

تعود جذور أزمة المياه في العراق إلى عوامل متعددة، تفاقمت بسبب سوء الإدارة والسياسات الإقليمية وآثار تغير المناخ المتزايدة. لطالما كان العراق مهداً للحضارات بفضل موارده المائية الوفيرة التي يوفرها نهرا دجلة والفرات. إلا أن عقوداً من الصراعات وسوء إدارة المياه، بالإضافة إلى بناء السدود في الدول المجاورة مثل تركيا وإيران، وتغير المناخ السريع، قد أدت إلى تراجع حاد في الإمدادات المائية.

اليوم، يواجه العراق نقصاً شديداً في المياه. والمناطق الوسطى والجنوبية من البلاد هي الأكثر تأثراً، حيث أسهم ارتفاع درجات الحرارة وتناقص معدلات هطول الأمطار في انخفاض تدفقات الأنهار. مما جعل الزراعة، التي تعتمد بشكل أساسي على مصادر المياه هذه، على شفا الانهيار. ونتيجة لذلك، تتفاقم الأزمات الاقتصادية للملايين من العراقيين. ومع تقلص الأنهار وزيادة التلوث، يلوح شبح الجفاف في الأفق، مهدداً ليس فقط الأمن الغذائي، بل أيضاً القدرة على العيش في العديد من المناطق.

إقليم كوردستان.. مكان من الوفرة النسبية

مقارنةً ببقية مناطق العراق، كان إقليم كوردستان يتمتع بوفرة نسبية في موارد المياه، لكن هذه الميزة آخذة في التلاشي بسرعة. إذ كان الإقليم ينعم، تاريخياً، بغزارة الأمطار وإمكانية الوصول إلى الأنهار النابعة من الجبال، مما وفر إمدادات مياه أكثر استقراراً. ولكن، مع تغير المناخ، أصبح الإقليم أيضاً عرضة لأزمة ندرة المياه.

يعتمد سكان الإقليم بشكل كبير على المياه الجوفية للشرب والزراعة والصناعة، مما أدى إلى استنزاف هذه الموارد الحيوية بشكل كبير. وقد انخفضت مستويات المياه الجوفية في العديد من مناطق الإقليم بشكل حاد، مما جعل الوصول إليها أكثر تكلفة وصعوبة.

وعلى الرغم من إدراك حكومة إقليم كوردستان لأهمية تحسين إدارة المياه واتخاذها خطوات للحد من الأزمة، مثل بناء البرك والسدود للاستفادة من المياه السطحية، إلا أن التحديات لا تزال قائمة، وعلينا أن نبذل جهوداً أكبر لمواجهتها. ومع أن الإدارة الحالية قد أولت اهتماماً أكبر بإدارة المياه مقارنةً بالإدارات السابقة، فإن غياب إجراءات حاسمة قد يجعل الوضع ينزلق نحو كارثة وشيكة.

المخاطر الخفية لاستنزاف المياه الجوفية

يعد الاعتماد المفرط على المياه الجوفية من أهم المخاوف التي تواجه إقليم كوردستان. ومع تقلب هطول الأمطار بسبب تغير المناخ، تحول العديد من المزارعين والمجتمعات إلى الاعتماد على الآبار للحفاظ على محاصيلهم وتوفير مياه الشرب. ومع ذلك، فإن المياه الجوفية هي مورد محدود، وعند استنزافها، قد تستغرق إعادة ملئها أجيالاً، في حال كان ممكناً أصلاً.

إن هذا النمط من الاستنزاف المفرط غير مستدام ويهدد استدامة الزراعة والعيش البشري في المنطقة على المدى الطويل. علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي استنزاف المياه الجوفية إلى حدوث هبوط في مستوى الأرض، حيث تنخفض الأرض فعلياً، مما يتسبب في تدمير البنية التحتية ويجعل الأنشطة الزراعية المستقبلية أكثر صعوبة. إذا استمر الإقليم في الاعتماد بشكل كبير على المياه الجوفية من دون التحول إلى إدارة المياه السطحية المستدامة، فإنه يخاطر بانهيار بيئي واقتصادي على المدى الطويل.

الهجرة الداخلية: تحول ديموغرافي وشيك

إحدى أسوأ الجوانب في أزمة المياه في العراق هي احتمال حدوث هجرة داخلية واسعة النطاق. إذ قد يُجبر ملايين الأشخاص على الانتقال بحثاً عن ظروف حياتية أفضل، مع تزايد ندرة المياه في المناطق الوسطى والجنوبية من العراق. وقد يصبح إقليم كوردستان، بفضل وضعه المائي الأفضل نسبياً، وجهة رئيسية لهذه الهجرة.

على الرغم من أن الإقليم كان تاريخياً ملاذاً لأولئك الفارين من العنف والاضطهاد، إلا أن تدفقاً كبيراً للأشخاص من مناطق أخرى في العراق بسبب ندرة المياه قد يجهد موارده المحدودة بالفعل. ويمكن أن تؤدي هذه التحولات الديموغرافية إلى تغيير كبير في التوازن العرقي والثقافي للمنطقة، مما قد يسبب في توترات وزعزعة في الاستقرار. علاوة على ذلك، فإن البنية التحتية المحلية، التي تعاني بالفعل من سنوات من النزاع والتخلف، ستكافح لمواكبة الزيادة المفاجئة في عدد السكان.

يجب على حكومة إقليم كوردستان أن تستعد لهذا السيناريو من خلال تنفيذ سياسات تحمي موارد المياه وتضمن حدوث أي تحركات سكانية مستقبلية بطريقة تقلل من الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية.

مسار للتقدم: إدارة مياه مستدامة

إقليم كوردستان، مثل معظم أنحاء العراق، يقف عند مفترق طرق حاسم. وعلى الرغم من بذل حكومة الإقليم جهوداً لمعالجة أزمة المياه، إلا أنه لا تزال هناك حاجة ملحة لحلول أكثر حسماً وابتكاراً. أحد السبل الواعدة هو بناء المزيد من البرك والسدود لالتقاط المياه السطحية. فهذه الاستراتيجية ستساعد في تقليل الاعتماد على المياه الجوفية وضمان قدرة الإقليم على تخزين المياه خلال مواسم الأمطار المتقلبة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن تحديث تقنيات الري في الزراعة سيساهم بشكل كبير في تقليل استهلاك المياه. في الوقت الحالي، يستخدم العديد من المزارعين طرقاً غير فعّالة تتسبب في هدر كميات هائلة من المياه. من خلال إدخال الري بالتنقيط أو تقنيات أخرى لتوفير المياه، ويمكن لإقليم كوردستان تقليل استخدامه الإجمالي للمياه بشكل كبير، مما يجعل القطاع الزراعي أكثر استدامة.

وتعد حملات التوعية العامة أيضاً أمراً بالغ الأهمية. فالكثير من الناس في المنطقة، كما هو الحال في أماكن أخرى، غير مدركين لخطورة أزمة المياه والدور الذي يلعبونه في تفاقمها. يمكن أن تساعد برامج التوعية الأفراد والمجتمعات على تبني عادات أكثر وعياً بأهمية المياه، مما يضمن مساهمة الجميع في الحفاظ على هذا المورد الحيوي.

وأخيراً، يجب على حكومة إقليم كوردستان الانخراط في جهود دبلوماسية مع الدول المجاورة لضمان اتفاقيات عادلة لتقاسم المياه. فإن مياه نهري دجلة والفرات عابرة للحدود، والإجراءات الأحادية الجانب من جانب دول المنبع قد تُسفر عن آثار مدمرة في اتجاه المصب. يجب على العراق، بما في ذلك إقليم كوردستان، الدعوة إلى استراتيجيات تعاونية لإدارة المياه تضمن لجميع دول المنطقة وصولاً عادلاً إلى هذه الموارد المشتركة.

أزمة المناخ وندرة المياه ليستا مشكلتين مستقبليتين، بل هما واقعتان الآن، وآثارهما ملموسة في جميع أنحاء العراق. إقليم كوردستان، وإن كان في وضع أفضل من بعض أجزاء البلاد، إلا أنه ليس بمنأى عن هذه التحديات. فمن دون إجراءات عاجلة، قد يؤدي استنزاف الموارد المائية إلى صعوبات اقتصادية، وهجرة داخلية، وحتى صراع على الإمدادات المتناقصة.

وكما يفعل الرجل الذي يقطع الفرع، فإننا نخاطر بدفع أنفسنا إلى حافة الهاوية ما لم نُدرك الخطر ونتحرك بسرعة لتغيير المسار. يجب على حكومة إقليم كوردستان، بدعم من شعبها وشركائها الدوليين، اتخاذ خطوات جريئة لضمان مستقبل مستدام لمواردها المائية. وبهذا وحده، نضمن بقاء إقليم كوردستان ملاذاً آمناً ومزدهراً، حتى في ظل تغير المناخ.


شيركو شريف: مستشار رئيس وزراء إقليم كوردستان لشؤون المياه



X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved