ملحمة كلكامش... رؤية معاصرة
ملحمة كلكامش... رؤية معاصرة

تمثل ملحمة كلكامش نتاجاً نادراً لحضارة بلاد الرافدين، تلك الحضارة التي ازدهرت بين نهري دجلة والفرات فيما يعرف بمنطقة سومر وأكاد وبابل وآشور

ونشأت الملحمة في بيئة خصبة ثقافياً وفكرياً، حيث تطورت نظم الكتابة المسمارية، والمؤسسات الدينية، والهياكل الإدارية، والأفكار الميثولوجية، مما أتاح للأدب أن يتخذ موقعاً مركزياً في الحياة العامة.

وكان ينظر إلى الملوك في سومر وأكد وبابل وآشور بوصفهم ممثلين للآلهة على الأرض، وكان النص الأدبي، خاصة الملحمي، أحد أهم الأدوات لإضفاء الشرعية على سلطتهم

في هذا السياق، برزت ملحمة كلكامش، التي تمزج بين السيرة الذاتية للملك التاريخي كلكامش وبين الأسطورة والرمز، لتصبح أول محاولة معروفة في التاريخ لفهم الإنسان ومصيره بوعي فلسفي - وجودي.

ونشأت ملحمة كلكامش في إطار أدبي شعبي شفهي، ثم دُوّنت لاحقاً في نسخ متعددة والنسخة السومرية (حوالي 2100 ق.م) تتكون من قصص متفرقة عن مغامرات كلكامش، من دون وحدة سردية متماسكة.

والنسخة البابلية المتأخرة (القياسية)، التي صاغها الكاتب الكاهن سين - ليقي - أونّيني (حوالي 1200 ق.م) هي الصيغة الأشمل والأدق، والمكتشفة في مكتبة آشور بانيبال في نينوى.

هذه النسخة الأخيرة، التي أصبحت النسخة المرجعية، تتألف من اثني عشرة لوحاً طينياً، تُظهر كلكامش في رحلة وجودية عميقة تبدأ بالطغيان وتنتهي بالاعتراف بمحدودية الإنسان

تعد ملحمة كلكامش حجر الأساس في أدب الحضارات القديمة، ويمكن مقارنتها بالإلياذة والأوديسة لهوميروس، ولكنها تتفوق عليهما زمنياً، إذ تسبق النصوص الإغريقية بما لا يقل عن 1000 عام.

وتظهر أهمية الملحمة في ريادتها لرحلة الموت والخلود، كأول نص أدبي يعبّر عن القلق الوجودي الذي يلازم الإنسان.

وملحمة كلكامش ليست مجرد سردية عن بطل خارق، بل هي نص تأسيسي لوعي الإنسان القديم بذاته ومحدوديته، وهي شهادة خالدة على نضج الفكر في حضارة بلاد الرافدين

البنية السردية والدرامية للملحمة:

تتسم ملحمة كلكامش ببنية سردية محكمة ومقسّمة على نحو مدروس يعكس تطور الشخصية الرئيسية وتحولاتها الداخلية.

ويمكن تحليل البنية إلى ثلاث مراحل أساسية:

في المرحلة الأولى، يمارس كلكامش، ملك أوروك، السلطة المطلقة ويُرهق شعبه فيتضرعون للآلهة التي تخلق أنكيدو ليوازيه.

وفي المرحلة الثانية، يبدأ الصراع بين كلكامش وأنكيدو، ومن ثم تنشأ الصداقة بينهما ثم يخوضان معاً مغامرات كبرى (مثل قتل خمبابا ومواجهة الثور السماوي)، وتنتهي بموت أنكيدو.

في المرحلة الثالثة تبدأ الرحلة الوجودية بعد موت أنكيدو، حيث يبدأ كلكامش رحلة طويلة نحو شخصية أوتنابشتم بحثاً عن سر الخلود، وتنتهي بإدراك حتمية الموت، والعودة إلى أوروك كرجل أكثر حكمة

واسم أوتنابشتم باعتقادي اسم كوردي مكون من مقطعين، وهما: الأول: «أوتنا» ويعني هو الوحيد. والثاني: «بشتم» ويعني يعيش. والاسم بمجموعه يعني الرجل الذي يعيش وحده، بمعنى الرجل الخالد وهي صفته

هذه البنية الثلاثية تعكس تطوراً درامياً وتطوراً داخلياً عميقاً، يجمع بين المغامرة والفجيعة والتأمل، ويقود القارئ تدريجياً من الصراع الخارجي إلى عمق الذات الإنسانية.

البناء الدرامي للملحمة وعنصر التشويق:

الملحمة توظف عدة عناصر درامية أهمها:

- توصيف عظمة كلكامش ومدينة أوروك

- والصراع الثنائي بين كلكامش وأنكيدو وهي نقطة التحول.

- واشتداد التوتر عند كلكامش بعد موت أنكيدو، ويبدأ التحول النفسي لكلكامش.

- ولقاء كلكامش بأوتنابشتم يمثل الذروة الفلسفية، وتليه عودته الصامتة كخاتمة تأملية

والملحمة مكتوبة بلغة شعرية مقفاة أحياناً، تتسم بالرمزية العالية والبلاغة. ويعد رثاء كلكامش لأنكيدو، من أبلغ مشاهد الحزن في الأدب القديم. والمكان في الملحمة ليس مجرد خلفية بل هو عنصر رمزي. والزمان ينقسم إلى زمن بطولي (أحداث المغامرات) وزمن تأملي (رحلة البحث عن الخلود)، مما يمنح السرد بُعداً مركباً يدمج بين الواقعي والميتافيزيقي.

ويُعد كلكامش الشخصية المحورية في الملحمة، وقد جُسّد بوصفه ملكاً ثلثاه إله وثلثه إنسان، مما يجعله يعيش صراعاً داخلياً بين الطبيعة الإلهية المتعالية والضعف البشري الذي لا يستطيع مقاومة الموت.

واسم كلكاميش (Guligêgamêş) يعني «عجل الجاموس» و هو اسم كوردي بحت مؤلفة من مقطعين gulig أو gulik ويعني العجل في اللغة الكوردية، و gamêşيعني الجاموس. وأكد الدكتور مؤيد عبد الستار في عام 2002 هذا المعنى في تعقيب على الاسم وقال إن تسمية كلكامش تعني ثور الجاموس

الفكرة الرئيسية في ملحمة كلكامش:

تغوص ملحمة كلكامش في عمق النفس الإنسانية من خلال مجموعة من الأفكار التي تجعلها واحدة من أهم النصوص في تاريخ الفكر الإنساني. وقد تناولت قضايا تتجاوز حدود الزمان والمكان، مستبقةً الفلسفة والأديان في معالجة أسئلة الإنسان الوجودية مثل الموت والخلود. حين يقول أوتنابشتم لكلكامش: «ما من أحدٍ يرى وجه الموت، ما من أحدٍ يفلت من قبضته».

وتصل الفكرة إلى ذروتها الفلسفية، حين يفهم كلكامش أن الحياة لا تُقاس بطولها، بل بعمقها ومعناها.

والصداقة بين كلكامش وأنكيدو في الملحمة ليست مجرد صداقة، بل اتحاد روحي ونفسي عميق حيث وصف النص أنهما «كانا كجسد واحد، بقلبين».

هذه الصداقة أعادت تشكيل كلكامش وأدخلته إلى عالم المشاعر الإنسانية والحنين والخوف من الفقد

وفي نهاية الملحمة، يقول كلكامش بفخر عن أوروك: «انظر إلى أسوارها، تأمل عظمتها، هكذا يصنع الإنسان مجده». وهنا، تتجلى رسالة الملحمة الكبرى:

«المجد ليس بالخلود، بل بترك أثر طيب، وبعيش حياة مليئة بالمعنى».

القيم الأخلاقية والرسائل الإنسانية في ملحمة كلكامش:

رغم مرور أكثر من أربعة آلاف عام على كتابتها، ما تزال ملحمة كلكامش تنبض بقيم أخلاقية عميقة ورسائل إنسانية شاملة تتجاوز حدود الزمان والمكان

 وهي لا تكتفي بسرد مغامرات بطولية، بل تُجسّد تحول الإنسان من الاستبداد إلى الحكمة، ومن الغرور إلى التواضع، ومن الرغبة بالخلود إلى القبول بالزوال مقابل صناعة الأثر الطيب.

والملحمة لا تقدم الحقيقة جاهزة، بل تضع بطلها في مواجهة الذات والعالم عبر التيه، والمعاناة، والخسارة. فهي تقول: «من لا يتألّم، لن يعرف».

والمعرفة الحقيقية ليست ما يُقال، بل ما يُعاش. وتُجسَّد هذه الفكرة حين يُنهي كلكامش رحلته ويأمر بنقشها على الألواح، لكي تتناقلها الأجيال.

«لقد رأى كل شيء، عرف كل شيء، اختبر كل شيء».

والمعرفة هنا ليست نظرية، بل حكمة ولدت من الجراح والآلام.

تجذير القيم الإنسانية قبل الدينية:

ورغم الطابع الأسطوري والديني للملحمة، إلا أن رسائلها لا تستند إلى الخوف من الآلهة بقدر ما تنبع من الضمير الإنساني مثل احترام الإنسان لحدوده الطبيعية، والاعتراف بالآخر والتعاطف مع الآخر

الأبعاد الفلسفية والميتافيزيقية في ملحمة كلكامش:

تتجاوز ملحمة كلكامش كونها قصة بطولية أو سرداً أسطورياً، لتغدو عملاً فلسفياً عميقاً يتناول الأسئلة الكبرى التي رافقت الإنسان منذ نشأته، مثل:

 ما معنى الحياة؟ ما جدوى الموت؟ هل هناك خلود؟ ما حدود الإنسان وما مصيره؟ ولهذا، تُعدّ الملحمة من أقدم النصوص التي تجسّد قلق الإنسان الوجودي وسعيه الحثيث نحو الحقيقة. والموت في الملحمة ليس مجرد نهاية حياة، بل هاجس وجودي.

أهمية ملحمة كلكامش في ثقافة بلاد الرافدين وإرثها في الوعي الإنساني:

ملحمة كلكامش ليست مجرّد عمل أدبي فني، بل تمثيلاً حياً وعميقاً لروح حضارة بلاد الرافدين، وتعبيراً عن رؤيتها للعالم، والإنسان، والمصير.

 وجاءت الملحمة في لحظة حضارية ناضجة، كانت فيها مدينة أوروك السومرية تمثل أحد مراكز التحول الاجتماعي والسياسي والثقافي. وبالتالي فإن فهم الملحمة هو فهم للرافد الحضاري الذي صاغ واحدة من أولى صور الإنسان وهو يواجه ذاته والعالم.

ورغم أن الملحمة دُفنت طويلاً في ألواح مطمورة، إلا أن اكتشافها في القرن التاسع عشر أعاد ترتيب كثير من تصوراتنا عن بدايات الأدب، وخاصة تأثيرها على الميثولوجيا الإغريقية، في تشابهها مع الإلياذة والأوديسة، ومقاربتها لفكرة الطوفان مع النص التوراتي والقرآني، مما جعلها جزءاً من الحوار بين الأديان.

وألهمت الملحمة الأدب الحديث، من خلال رمزية الشخصية القلقة الباحثة، التي أصبحت مركزاً في أدب القرن الماضي.

والملحمة تقول لنا إن الحضارات تموت حين لا تُكتب، وتبقى حين تتحول ذاكرتها إلى أثر. فقد أثبت التحليل أن الملحمة، وإن كُتبت على ألواح طينية، إلا أنها نُقشت في الوعي البشري كدرس خالد.


د. مرشد اليوسف: دكتوراه وباحث في التاريخ والآثار

 


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved