في أقصى الجنوب الغربي من تركيا، تقف مدينة ماردين شامخة على سفح الجبل، مدينة ليست كغيرها، بل هي لوحة فسيفسائية فريدة تجمع بين الشعوب والثقافات المختلفة، ولكنها في الوقت ذاته تحافظ على روحها الكوردية، المنحوتة في حجارتها العتيقة، والمتجذرة في أزقتها، والممتدة في قلوب سكانها. ماردين ليست مجرد مدينة، بل هي حكاية تمشي على أقدام الزمن، ترويها المآذن والعمارات الحجرية، وتكتبها الأيدي التي بنتها، والألسنة التي تحدثت فيها، والأقدام التي عبرت دروبها الضيقة.
الموقع الاستراتيجي لماردين
تتشرف مدينة ماردين على سهل الجزيرة الفراتية، مما جعلها عبر العصور نقطة استراتيجية مهمة، ومعبراً للقوافل التي تسير بين بلاد الرافدين والأناضول. المدينة التي تتربع على مرتفعات الجبل، تتمتع بموقع يربط بين تاريخ طويل من الحروب، والتجارة، والحضارات التي ازدهرت في المنطقة.
الروح الكوردية في ماردين
رغم تعاقب الإمبراطوريات، من الآشوريين إلى العثمانيين، ظل للكورد حضورهم العميق في ماردين، ليس فقط من خلال السكان، بل أيضاً في العادات والتقاليد التي شكلت نسيج المدينة. في الأسواق القديمة وأزقتها الضيقة، تتردد أصداء اللغة الكوردية كأنها جزء من حجارة البيوت التي صمدت أمام الزمن. كبار السن، بملابسهم التقليدية «الشال والشابك»، يجلسون أمام الحوانيت، يتبادلون الحديث ببطء، وكأن كل كلمة تحمل إرثاً يمتد لمئات السنين.
لا يمكن الحديث عن ماردين من دون التوقف عند نبضها الكوردي، ذلك النبض الذي لم يخفت رغم تقلب العصور. هنا، لم يكن الكورد مجرد سكان، بل كانوا روح المدينة وذاكرتها الحيّة، شرفاتها التي تعانق الشمس، وأزقتها التي تحفظ الحكايات كما تحفظ الأمهات أغاني التراث. اللغة الكوردية ليست مجرد كلمات تُقال، بل هي موسيقى تتردد في الأعراس، وتُروى في الحكايات، وتُهمس في الصلوات.
في الأسواق، تمتزج أصوات الباعة برائحة التوابل والقهوة، لكن وقع الكلمات الكوردية يظل حاضراً، كأنه جزء من نسيج المكان. في الساحات، يروي الحكاؤون قصص الأجداد على وقع أنغام الطنبور، حيث يلتقي الحنين إلى الماضي مع إيقاع الحاضر، ليؤكد أن ماردين ليست مجرد مدينة، بل قصيدة تتوارثها الأجيال.
في الليالي الهادئة، تتعالى الأغاني الكوردية من البيوت، ألحانها تتأرجح بين الشجن والفرح، بين الحنين الذي يسكن القلوب والبهجة التي تنفجر فجأة على وقع الدبكات. في الساحات الحجرية، تمتد حلقات الرقص، وتتشابك الأيدي، وتتعالى الزغاريد، بينما يلوّح الرجال بأيديهم في الهواء، كأنهم يحاكون الريح التي عبرت هذه الجبال منذ الأزل، وتحمل معها أسرار الأجداد وأصواتهم البعيدة.
وعندما يرخي الليل سدوله، تتلألأ ماردين بأضواء خافتة، فتبدو كقطعة من السماء هبطت إلى الأرض. ينعكس وهج المصابيح على حجارتها الذهبية، فيرسم لوحة سريالية، كأن المدينة عالقة بين الحلم واليقظة. في هذا السكون، تهدأ الضوضاء، لكن صوت الحكواتيين يعلو في الأزقة العتيقة، يتردد صداه بين الجدران، كأن الزمن توقف ليصغي إلى القصص التي لم تنتهِ بعد.
العمارة في ماردين: بين الحجر والتراث
عندما تنظر إلى ماردين من بعيد، تبدو وكأنها مدينة نُحتت في الجبل، ببيوتها المتدرجة المتلاصقة التي تعكس الأسلوب الكوردي التقليدي في البناء. تُشيَّد من الحجارة الكلسية الفاتحة التي تمتص ضوء الشمس نهاراً، فتبدو متوهجة، ومع حلول الليل، تتلألأ أضواء القناديل على جدرانها، فتظهر كقطعة من السماء.
تعكس عمارة ماردين التأثير الكوردي العريق، حيث تُستخدم الحجارة الكلسية الصفراء المعروفة بقدرتها على الحفاظ على البرودة في الصيف والدفء في الشتاء، مما يجعلها امتداداً للطبيعة التي نشأت فيها، تنتمي إليها بقدر ما ينتمي إليها أهلها.
تتميز المدينة ببيوتها الحجرية ذات النوافذ المقوسة والمنحوتات الدقيقة، وكأنها نُحتت مباشرة من قلب الجبل. تتدرج المنازل بمرونة فوق السفوح، مما يجعلها تبدو كأنها جزء من الطبيعة المحيطة.
واجهات البيوت مزخرفة بأقواس وأعمدة دقيقة النحت، بينما شرفاتها تطل على الأزقة الضيقة التي يلتقي فيها السكان مساءً لتبادل الأخبار والحكايات. وتحتوي معظم المنازل على «الإيوان»، وهو رواق مفتوح مزين بالنقوش اليدوية، ويستخدم كمكان للراحة والتأمل، تماماً كما في القرى الكوردية من ديار بكر إلى سنجار.
الأبواب الخشبية الثقيلة والمداخل المزخرفة، والأفنية الواسعة، تحمل بصمة الأجداد الكورد. على الأسطح، يجلس السكان مساءً يتحدثون وينظرون إلى السهول، يتأملون ماضيهم وحاضرهم. أما المساجد، فقد أضاف المعماريون الكورد إليها تفاصيل مميزة، مثل المآذن المخططة والمداخل المزخرفة بأشكال هندسية تعكس الفن الكوردي، كما في الجامع الكبير الذي يعود إلى 1176م، وهو من أقدم الجوامع في تركيا.
الأزياء في ماردين.. تعبير عن هوية ثقافية عميقة
ما إن تطأ قدماك مدينة ماردين حتى يلفت انتباهك تنوع الأزياء في شوارعها، ولكن الأزياء الكوردية تظل الأكثر بروزاً. يرتدي الرجال «الشال والشابك»، وهو زي تقليدي يتألف من سروال فضفاض وقميص مربوط بحزام من القماش المطرز، ويزينون رؤوسهم بالكوفيات المخططة التي تعكس ارتباطهم العميق بالأرض.
أما النساء، فهن عنوان للجمال الكوردي الأصيل، حيث يرتدين الفساتين الطويلة المطرزة التي تتزين بألوان زاهية تعكس تناغم الطبيعة والحياة في تلك الأرض. تضع النساء عباءات شفافة ويربطن شعورهن بأوشحة مزخرفة بتطريزات دقيقة، كل خيط فيها يحمل قصة من تراث لا يُنسى. وفي الأعراس، تلمع القطع الذهبية التي تزينهن، وخاصة القلادة الذهبية التي تمثل رمزاً للكرامة والفخر.
فسيفساء الشعوب في ماردين.. تنوع ثقافي يعبق بالتاريخ
رغم مرور العصور، تظل ماردين مدينة كوردية في جوهرها، تحتفظ بلغتها في الحوارات، وبتراثها في الأزياء، وبتاريخها في حجارتها. هي ليست مجرد نقطة على الخريطة، بل جزء من الذاكرة الجماعية للشعب الكوردي الذي يواصل الاحتفال بها في ليالي الشتاء وأعياد النوروز، ليؤكد أن ماردين ليست مجرد مدينة، بل هي قصة وهوية لا تُمحى.
فهي تحتضن الجميع، كونها فسيفساءً من الشعوب وملتقىً للأديان والثقافات، حيث يتعايش الكورد بجانب السريان والعرب، وتتعانق المآذن مع أبراج الكنائس. ورغم هذا التنوع، لم تفقد المدينة ملامحها الكوردية، بل ظلت حاضرة في كل زاوية.
في أزقتها الضيقة التي تشبه المتاهات، تفتح الأبواب على ساحات مضيئة تملؤها روائح القهوة المرة والتوابل الشرقية، في هذه الأزقة، قد ترى عجوزاً كوردياً يجلس بجانب رجل عربي، يتبادلان الحديث؛ أحدهما بالكوردية والآخر بالعربية، لكنهما يفهمان بعضهما بلا عناء. هذه المدينة علمتهما أن الاختلاف ليس عائقاً، بل جمالاً إضافياً، كألوان الفسيفساء التي لا تكتمل إلا بتعددها.
حكاية كوردية لا تنتهي
عند حلول الليل، يضيء المشهد بضوء القناديل وتعلو أصوات الحكواتيين، وهم يروون قصصاً عن أبطال كورد مرّوا من هنا، عن شعراء كتبوا بالكوردية، وأغانٍ لم تُنسَ عبر العصور. ماردين ليست مجرد حجارة، بل كائن حي يتنفس الكوردية في كل زاوية، يحكيها في همساتها ويغنيها مع الرياح، رغم تغير الأزمنة، تبقى كوردية الروح، عميقة الهوية، لا تبهت ولا تنطفئ. هي كتاب مفتوح، تقرأ فيه سطور الكورد والعرب والسريان والأرمن، لكن الحروف الكوردية تظل بارزة، منقوشة في جدرانها، ظاهرة في أزيائها، ومترددة في أزقتها. لوحة فسيفساء متقنة، يحتفظ كل حجر فيها بلونه رغم كل التحديات.
عماد الدين موسى: شاعر كوردي من سوريا، مدير تحرير منصّة قناص الثقافيّة، صدر له مجموعة من الكتب