يتناول فيلم «الباشا، أمي وأنا» سيرة حياة عائلة نبيلة خلال قرن من الزمن. الجد المؤسس أنجب أبناء أشداء ومناضلين من أجل قضية شعبهم وسعيهم للعمل والبحث الحثيث عن دورٍ لشعبهم في ظل العواصف السياسية آنذاك. أكرم: أحد الأبناء الذين سطَّروا في مسيرتهم النضالية التضحية والكفاح. يسلم الأب (الشخصية الحاضرة الغائبة في الفيلم) الراية كأمانة «لپرڤین» (المحور الثاني والشخصية الرئيسية في الفيلم) لتكمل مشوار أبيها وتحافظ على الوجه المشرق للعائلة بعد سنوات من الكفاح.
أكرم قاسم جميل باشا
يبدأ الفيلم من أسطورة كاوا، صديق الجبال والمكافح عن أطفال كوردستان. كان الثعبان الأسود الكبير (رمز الملك الظالم) يلتهم العديد من بنات وأطفال الكورد سنوياً، مما أجج حمية الغيرة والنخوة لدى كاوا وقتل الثعبان ليؤمن استقرار العيش لشعبه. يُعرج الفيلم أيضاً، على الألوان الثلاثة لمكونات العلم ورمزية الشمس التي تجسد بدورها النار المقدسة لدى معتنقي الزردشتية قديماً، ورمزية 21 آذار من كل عام واحتفالات عيد نوروز.
كان لا بُدَّ من هاتين الوقفتين على عُجالة، لاستعراض جانب من حياة رفيق مخلص ومقرب من جلادت بدرخان (1893 - 1951، لغوي وحقوقي، رائد من رواد الصحافة الكوردية، أول من ساهم بكتابة اللغة الكوردية بالحرف اللاتيني) إبان حكم أتاتورك بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. كان أكرم جميل باشا مثقفاً ثورياً ومُناضلاً وضع نصب عينيه قضية شعبه، التزم بالحرف والصحافة الحرة مُدافعاً عن مبادئ الحرية والمساواة بين الشعوب (استعرض الفيلم مؤتمري سيفر ولوزان ونكوص أتاتورك عن وعوده) بعد أن شاعت مبادئ الثورة الفرنسية في أصقاع الأرض المختلفة.
ولمساهمته (بالكلمة والقلم) في ثورة الكورد، ثورة الشيخ سعيد پيران عام 1925 ضد الفاشية، حُكم على أكرم جميل باشا بالسجن 15 عاماً، قضى منها فعلياً ثلاث سنين في سجون ديار بكر. حينها، لم يثبت عليه التمرد وحمل السلاح في وجه السلطات التركية. بعد إخلاء سبيله توجه مع خمسة من رفاقه قاصداً سوريا، للعمل في الزراعة في قرى الدرباسية. وانتقل لاحقاً لمدينة دمشق واستقر فيها حتى رحيله الأبدي.
تزوج أكرم جميل باشا من امرأة شركسية وأنجب منها خمسة أبناء، الأصغر سناً منهم «نوزت» مازال مقيماً في ألمانيا. كتب مذكراته بالحرف العثماني القديم، مازال الكتاب (موجز حياتي) بحوزة «پرڤین» كما أسرتْ لي وهي تعمل على ترجمته للغة الفرنسية للوقوف على هذه التجربة الغنية ولاستعراض تلك المرحلة التاريخية الزاخرة بالأحداث. فُجع أكرم برحيل ابنته خيرية وهي في سن الثانية والعشرين، حسب رسائله المؤلمة والمليئة بالشجن: «كانت خيرية زهرة دمشقية، ملكة بأناقتها ولون عينيها الخضراوين اللتين تشبهان خضرة الأشجار، كانت خيرية محط أنظار جميع الفتيات لجمالها ولَباقتها وسلوكها النبيل». من هنا يبدأ الفيلم بالتحول نحو سيرة «پرڤین» كونها كانت الأخت الصُغرى، وعليها وقع العبء بحمل الشعلة التي تمسَّك بها الأب حتى آخر رمق من حياته. في رسائله يخاطب الأب «پرڤین» بلقب الملكة ذات الأصل النبيل ويزداد شوقه لابنته بعد رحيلها للكونغو والعمل هنالك كمدرسة للغة الفرنسية. الفيلم يغوص عميقاً في التاريخ بكاميرا رشيقة وبوعي بتفاصيل التاريخ القديم والحديث.
پرڤین: الأم وسؤال الهوية
الفيلم تحفة فنية لإنصاف شخصية بمكانة ومنزلة ناشطة سياسية ومناضلة بذلت الكثير من أجل قضية شعبها، ومن أجل تحرير المرأة. تتقن پرڤین وهي من مواليد 1943 اللغة التركية والفلمانية والفرنسية والعربية والكوردية. ولابُدَّ من القول إن پرڤین تمتاز بشخصية آسرة، فهي صديقة لكل أطياف المجتمع كونها كانت مُديرة «البيت الكوردي للثقافة» في بروكسل، كانت عوناً للأرمن والعرب والإيرانيين والأتراك، مترفعة عن الانتماءات الحزبية الضيقة وتصنيف الناس وفق جنسياتهم وأعراقهم. زواجها من بيتر غيرتس البلجيكي، أضاف لشخصيتها بُعداً أممياً، استطاعت أن تحتل قلوب محبيها من الأصدقاء والمعارف من دول الشرق والغرب.
يسيطر روح الفرح على سلوك پرڤین اليومي بالرغم من الحزن والألم اللذين يرافقانها لما حلَّ بشعبها من مآسي ومجازر رهيبة.
في محطة لاحقة في الفيلم، زارت پرڤین ديار بكر برفقة أسرتها، هناك وقفت على تُراث الجد المؤسس الذي ترك قصراً صادرته الحكومة وهو اليوم دار البلدية. بفرح وشموخ تتجول پرڤین برفقة زوجها وابنتيها في أزقة دياربكر ومقاهيها وتقف على أطلال التاريخ وسيرة العائلة بعد قرن من الزمان. أجادت المخرجة نيڤين، ابنة پرڤین، العودة لانقلاب كنعان إيفرين (1980) الذي وأدَ الديمقراطية في تركيا. خلفَ الانقلاب الألوف من الضحايا في صفوف الكورد (العدد لغاية اليوم غير دقيق لعدم توفر مصادر مستقلة)، وتهجير عشرات الألوف وهدم منازل أعداد مهولة من القرى الكوردية. حينها، لعبت پرڤین دوراً بارزاً في بروكسل بفضح أغراض الانقلابيين والكشف عن الوجه الحقيقي لدوافع العسكر بفرض سياسة التتريك المستمرة ضد الشعب الكوردي. كما لعبت پرڤین دوراً لافتاً بعد الهجوم الكيماوي في حلبجة (1988). فقد سعت لدى الحكومة البلجيكية لتأمين مساعدات إنسانية للكورد آنذاك.
ويصور الفيلم محطة مهمة من محطات النضال في كوردستان العراق عام 1991. ففي ذلك العام بدأت تباشير الانعتاق من الفاشية البعثية المتمثلة بصدام حسين وزمرته الحاكمة. وكذلك يؤرخ الفيلم لبطولات المرأة الكوردية ودحرها للإرهاب الذي أصاب سوريا والعراق، والتضحيات الجسام التي قدمتها تلك المرأة الباسلة لدحر الفكر الظلامي الأسود.
في نهاية الفيلم، تطرح المخرجة سؤالاً على والدتها: لِمن الأولوية بحياتكِ، أسرتكِ أم شعبكِ؟ بكل بساطة أجابت پرڤین: السؤال غير منطقي، ليس لي خَيار للمفاضلة بين أسرتي وشعبي، أسرتي جزء من شعبي، وأنا أجدهما في صميم روحي. تتجدد الحياة بابن نيڤين الذي يحمل اسم ليون. تطلق العائلة اسم هيڤي (الأمل) على هذا الحفيد الذي يحمل في جيناته إرث الباشا.
نال الفيلم رضى وإعجاب الحضور، وأثناء النقاش طُرحت أسئلة أغنتْ الأمسية وسلطت الضوء على قضايانا الملحة: حرية المرأة والمساواة والعيش المشترك.
عليَّ الإدلاء بشهادتي بحق پرڤین وعائلتها كوني تشرفتُ بمعرفتها وتعاملتُ معها عن قُرب، أنا فخور بصداقتي مع عائلة كريمة من منبت أصيل. كنت أظن ولوقت قريب أن النبالة مُجرد قصص وروايات، كم أنا محظوظ بلقائي بپرڤین أكرم جميل باشا في بروكسل، پرڤین التي تُجسد القيم الإنسانية النبيلة وهي تمشي على قدميها مُمثلة بقامة ثقافية نضالية شامخة تستحق كل تكريم.
ميرال بولات
ساهمت ميرال في إحياء حفلة موسيقية للوقوف على التآخي بين الشعبين الكوردي والتركي، فهي من جهة الأب كوردية ومن جهة الأم تركية، رغم ذلك تقدم نفسها كموسيقية كوردية هولندية حيث تقيم في أمستردام العاصمة. أوضحت ميرال بأن وعيها القومي نحو مآسي شعبها تبلور بعد اطلاعها على التهجير القسري والمجازر التي حلت بالكورد في العراق وتركيا. لميرال مجموعة أغانٍ تحمل عنوان (EZ Kî ME) وهي ناشطة نسوية تعمل على تأصيل الهوية الثقافية عبر الموسيقى، اللغة العالمية التي تحمل في طياتها الاندماج المجتمعي وقبول الآخر بروح إنسانية عالية.