اتفاقية الجزائر .. «مؤامرة دولية» فشلت في القضاء على الحلم الكوردستاني
اتفاقية الجزائر .. «مؤامرة دولية» فشلت في القضاء على الحلم الكوردستاني
August 11, 2025

في آذار / مارس 1975، وعلى هامش قمة الأوبك في الجزائر، وقع نائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين، وشاه إيران محمد رضا بهلوي، اتفاقية اعتُبرت واحدة من أكثر الاتفاقيات المثيرة للجدل في تاريخ المنطقة، سواء على صعيد ترسيم الحدود أو فيما يخص مصير القضية الكوردية. اتفاقية الجزائر، التي تم بوساطة الرئيس الجزائري هواري بومدين، أفضى إلى إنهاء الدعم الإيراني للحركة الكوردية المسلحة بقيادة الجنرال الملا مصطفى البارزاني، مقابل تنازلات عراقية في شط العرب وبعض المناطق الحدودية.

وفي حديث أجرتها مجلة «كوردستان بالعربي»، قدّم كل من الدكتور عبد الحسين شعبان، المفكر والباحث في القانون والعلاقات الدولية، والدكتور شيرزاد زكريا محمد، الأكاديمي المتخصص في التاريخ والعلاقات الإقليمية، قراءتين متكاملتين للأبعاد القانونية والسياسية والإقليمية للاتفاقية، مع التركيز على ما خلفته من آثار كارثية على الشعب الكوردي وحركته التحررية.

من «شط العرب» إلى الجبال الكوردية

يرى الدكتور شعبان، أن الاتفاقية لم تكن وليد رغبة عراقية - إيرانية خالصة، بل جاء نتيجة ضغوط أمريكية مباشرة عبر هنري كيسنجر، في محاولة لوقف التقارب العراقي - السوفيتي الذي تعزز بعد توقيع المعاهدة الاستراتيجية بين بغداد وموسكو عام 1972. ويصف الاتفاقية بأنها «مُجحفة» من الناحية القانونية، خصوصاً أنها أقرت بخط التالويك لترسيم الحدود في شط العرب، وهو ما يُعد تنازلاً عن السيادة العراقية على الضفة اليسرى للنهر.

أما الدكتور شيرزاد فيوضح أن توقيع الاتفاقية جاء نتيجة مباشرة لتشابك العوامل الإقليمية والدولية. فقد كانت العلاقة بين العراق وإيران متوترة على خلفية النزاع حول شط العرب، بينما شكّلت الأزمة بين بغداد والثورة الكوردية ذريعة لإيران لممارسة ضغوط سياسية من خلال دعم الكورد عسكرياً. ويضيف أن الدافع الرئيس الذي قاد بغداد إلى توقيع اتفاقية 11 آذار 1970 مع قيادة الثورة الكوردية كان تقليل التهديد الإيراني، لكن سرعان ما تخلت الحكومة العراقية عن التزاماتها، لتعود المواجهات مجدداً عام 1974، فتدخلت طهران بدعم الثوار الكورد.

شكّلت الاتفاقية ضربة قاصمة للثورة الكوردية المسلحة. فبمجرد توقيعها، أوقفت إيران دعمها العسكري واللوجستي، ما أدى إلى انهيار الثورة خلال أسابيع. ويصف الدكتور شيرزاد هذه اللحظة بأنها «طعنة في الظهر»، حسبما قاله الثوار أنفسهم، الذين وجدوا أنفسهم بين خيارين: الانسحاب إلى إيران أو الاستسلام للسلطات العراقية. لكن رغم الانكسار، أعاد الكورد تنظيم صفوفهم وأطلقوا ثورة «گولان» في أيار 1976، ما يؤكد، كما يقول، قدرة المقاومة الكوردية على التجدد رغم الصدمات.

وفي السياق ذاته، يشير الدكتور شعبان إلى أن الاتفاقية شملت بنوداً أمنية خطيرة، كالتنسيق الاستخباراتي لقمع المعارضات، وغضت الطرف عن احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث، في مقابل إنهاء التمرد الكوردي، ما جعل الاتفاقية أكثر من مجرد تفاهم حدودي، بل أداة لتصفية ملف الكورد كلياً.

الكورد كورقة تفاوض.. المصالح قبل المبادئ

يتفق الدكتور شيرزاد مع رؤية شعبان في أن القضية الكوردية تحوّلت إلى «ورقة مساومة» استخدمها الطرفان لتحقيق مصالحهما الاستراتيجية. إذ قدم العراق تنازلات حدودية في مقابل إسكات الصوت الكوردي، فيما استغلت إيران دعمها للثوار لانتزاع مكاسب سيادية. هذا التوظيف السياسي، وفق الدكتور شيرزاد، أسهم في تعميق فجوة الثقة بين الكورد والدولة العراقية، وفضح هشاشة التحالفات الإقليمية.

ويصف الدكتور شعبان هذه المناورات بأنها جزء من «صفقة كبرى»، دفع الكورد ثمنها من دمائهم ومصيرهم السياسي. ويضيف أن الاتفاقية كانت مقدّمة لمرحلة سوداء في تاريخ الكورد، ترافقت مع حملات التهجير، والتعريب، والأنفال، واستخدام الأسلحة الكيمياوية، خصوصاً في مدينة حلبجة.

الخلل القانوني وتحدي السيادة

وفي تحليل قانوني دقيق، يؤكد الدكتور عبد الحسين شعبان أن اتفاقية الجزائر يمكن الطعن فيها دولياً، بالاستناد إلى اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969، خصوصاً أن الاتفاقية جاءت في ظل ضغوط سياسية هائلة وانتفاء الإرادة الحرة للطرف العراقي. لكن شعبان لا يدعو إلى إلغائها بالقوة، بل عبر الوسائل السلمية: الحوار، والوساطة، والتحكيم الدولي أو اللجوء إلى محكمة العدل الدولية.

ورغم إعلان صدام حسين إلغاء الاتفاقية عشية الحرب مع إيران عام 1980، ثم عودته لاحقاً لعرض استئنافه بعد غزو الكويت، فإن الاتفاقية ظلت حية في الذاكرة السياسية الإيرانية. وعندما صرّح الرئيس العراقي الأسبق جلال طالباني عام 2007 بإلغاء الاتفاقية، جاء الرد الإيراني عنيفاً، في مؤشر على مدى تمسك طهران بما تعتبره مكاسب تاريخية.

أما الدكتور شيرزاد، فيرى أن اتفاقية الجزائر ما زالت تمثل «جرحاً سياسياً مفتوحاً» في الوعي الكوردي. فهي لم تُنهِ فقط ثورة أيلول، بل كرّست صورة الكورد كضحايا لمعادلات إقليمية لا تعبأ بحقوقهم. هذه الاتفاقية، بحسب تعبيره، لا تزال تُستحضر عند كل منعطف سياسي، لا سيما خلال أزمة استفتاء الاستقلال عام 2017، حين لعبت إيران دوراً فاعلاً في عرقلة التطلعات الكوردية.

ويضيف الدكتور شيرزاد أن الدرس الذي استخلصه الكورد بعد 1975 هو أن الاعتماد على الدعم الخارجي لا يكفي، بل يجب ترسيخ مشروعية سياسية داخلية. ومنذ ذلك الحين، تغيّرت استراتيجيتهم لتصبح أكثر تركيزاً على الدستور، والبرلمان، والتحالفات الداخلية، من دون التخلي الكامل عن البُعد الإقليمي، غير أن الوقائع تثبت، كما يقول، أن الإرادة الكوردية تظل رهينة التوازنات الإقليمية والدولية.

ما بعد الاتفاقية.. عراق جديد أم تكرار للتاريخ؟

رغم مرور خمسة عقود على توقيع الاتفاقية، لا تزال تداعياته حاضرة في علاقة بغداد بأربيل وطهران. يشير الدكتور شيرزاد إلى أن إيران ما زالت تتعامل مع الملف الكوردي في العراق من منظور أمني واستراتيجي، وتعتبر أي طموح كوردستاني بالاستقلال تهديداً مباشراً. وهذا ما ظهر جلياً في الموقف الإيراني المتشدد من استفتاء 2017.

وفي المقابل، يرى الدكتور شعبان أن أي تسوية سياسية حقيقية لا بد أن تقوم على احترام متبادل للسيادة والمصالح، بعيداً عن سياسات الهيمنة. ويحذر من أن استمرار النزاع لن يخدم سوى القوى الإقليمية والدولية التي تستثمر في عدم استقرار المنطقة.

تكشف شهادتي الدكتور عبد الحسين شعبان والدكتور شيرزاد زكريا محمد، أن اتفاقية الجزائر لم تكن مجرد وثيقة دبلوماسية، بل لحظة تأسيسية لمسار طويل من الانكسارات والانقسامات، لا تزال ارتداداتها حاضرة إلى اليوم. الاتفاقية شكّلت محطة فارقة في الصراع بين المركز والهامش، بين السيادة الوطنية والحقوق القومية، وبين الجغرافيا والمصالح. وفهمها اليوم لا يهدف إلى إحيائها، بل إلى تفكيك منطقها السياسي، تمهيداً لبناء مستقبل أكثر عدلاً وشراكة.


إيمان أسعد: صحفية كوردية 


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved