البارزاني... الصقر الذي حلّق عائداً إلى دياره
البارزاني... الصقر الذي حلّق عائداً إلى دياره
August 11, 2025

«الملا مصطفى موجود في طهران»!

كانت تلك رسالة وردت إلى مكتب الأخبار في صحيفتنا «كيهان» في نهاية أبريل / نيسان 1975 من شابور دَولتشاهي، وهو صديق دبلوماسي كان يدير مكتب البروتوكول في وزارة الخارجية الإيرانية. وغني عن الذكر أن هذا الخبر كان مهماً، ورأينا أنه من الممكن أن يصبح أهم لو تمكننا من الحصول عليه كسبق صحفي.

وكان السؤال هنا، كيف يمكننا العثور على مكان وجود الزعيم الكوردي الكبير، إذ كان واضحاً أن «السلطات» لم تكن تريد أن يتم الكشف عن الخبر.

وكالات الأنباء الرسمية، التي لم تكن في العادة تترك خبراً عن وصول الشخصيات، حتى الاعتيادية ومن أقصى بقاع الأرض، إلا ونشرته، لزمت الصمت بخصوص هذا الخبر.

وزعم المتحدث الإعلامي الرسمي لوزارة الخارجية محمود صالحي أنه لا يعلم شيئاً عن ذلك الأمر.

وتبيّن أن دَولتشاهي، الذي كان يخبر جريدتنا منذ سنوات عن مجيء ورحيل الشخصيات الأجنبية البارزة، قد صرّح هذه المرة خارج النطاق المسموح له. لذلك عندما سألناه أين يمكننا التواصل مع الزعيم الكوردي، تظاهر بأن ما نقله لنا كان مجرد «شائعة».

وكملاذ أخير، لجأنا إلى العقيد عيسى بيجمان، وهو ضابط مخابرات الجيش، كان يعمل كحلقة وصل مع السياسيين الكورد في العراق لسنوات. وقام هو بدوره بمساعدة مراسلنا، جلال هاشمي، المختص بتحديد مكان الشخصيات، في العثور على الفيلا التي كان يقيم فيها البارزاني كضيف مميز. وبعد مكالمة هاتفية، تلقينا دعوة من البارزاني لنتناول معه الشاي ونَدعَمه، كما تمنينا، بشيء من التعاطف.

كان البارزاني يعلم أن صحيفتنا «كيهان» تدعم دائماً نضال الشعب الكوردي في العراق من أجل الحرية والعدالة والكرامة. وبالنسبة للعديد من قرائنا، بل وللكثيرين من الإيرانيين، كان «الملا مصطفى»، كما كانوا يحبون أن يُسموه، بمثابة بطل يُناضل من أجل «أبناء عمومتنا» الكورد في الجارة العراق.

حوار.. وجهاً لوجه

ولعدة أسباب، قررتُ - بصفتي رئيس تحرير لـ«كيهان» - أن أجري معه المقابلة بنفسي:

أولاً، لأنني فكرت بأنه إذا لم تكن السلطات ترغب في منح البارزاني فرصة لإرسال رسالة إلى العالم الخارجي، فإنها ستجد من الأسهل أن تُرهب مراسلاً بدلاً من ترهيب رئيس التحرير. بالإضافة إلى ذلك، يجب عليّ أن أعترف بأنني كنت أشعر شخصياً بالفضول لتقييم الحالة المزاجية للملا مصطفى في اللقاء معه وجهاً لوجه.

وقررت أيضاً عدم استخدام جهاز التسجيل لتجنب الحصول على ما قد يبدو وكأنه حوار مكتوب مسبقاً. وكان من شأن ذلك أن يمنح البارزاني فرصةً لإنكار أي شيء قد يصرّح به ويتسبب في إزعاج «السلطات»، فيتمكن من الادّعاء بأن كلامه قد تم تحريفه.

ودعوني أعترف الآن، بعد مرور نصف قرن، بأنني ربما كنت أرغب، في عقلي الباطن، أن يظهر الملا مصطفى بمظهرٍ متألقٍ منتصر بعد جولة في حرب عادلة، وليس كجنرال مهزوم ينسحب من ميدان معركةٍ خاسرة. من منظور أخلاقي، قد لا يكون ذلك هو الخيار الأمثل، لأنه من المفترض أن يحتفظ المراسل بآرائه الشخصية، ناهيك عن مشاعره، خارج نطاق عمله.

لكن مع ذلك، هناك أوقات يصبح فيها الحفاظ على أسطورة الحياد الصحفي أمراً صعباً، إن لم يكن مستحيلاً.

كان الاختيار بين صدام حسين الذي كان يعتبر السياسة مزيجاً من الوحشية والخيانة، والملا مصطفى البارزاني الذي بذل جهداً جهيداً لإيجاد صيغةٍ للتعايش مع بغداد، لكنه تعرض للخيانة من قبل حلفائهِ الأمريكيين وللخذلان من قبل أبناء عمومته الإيرانيين.

وفعلاً، تم اللقاء مع البارزاني في صالون كبير في الفيلا الفخمة حيث كان يقيم في ضيافة البلاط الإمبراطوري الإيراني. السجادة الفارسية الضخمة والثريا الفخمة جعلتا المكان يبدو كأنه صالة رقص مهجورة.

كان البارزاني يجلس في إحدى زوايا الصالة وأمامه طاولة شاي مستطيلة محملة بالفواكه والشكولاتة والبسكويت.

وبجانب الطاولة كانت هناك كومة من الكتب وسكاكين النقش على الخشب الخاصة بالملا مصطفى. كان البارزاني، فناناً حقيقياً في فن النقش على الخشب، كان دوماً ما ينحت شيئاً ما، غليوناً أو طائراً خشبياً، أو إطاراً للصور. وكان رئيس الوزراء أمير عباس هويدا يمتلك إحدى غليونات البارزاني وكان يعرضه أحياناً للقادة الأجانب الزائرين باعتباره «غليون سلام».

لكن في ذلك اليوم، لم يكن لدى البارزاني خشب. لذا، بدأ بتقشير برتقالة كبيرة، محولاً قشرها إلى كوبرا ملتوية.

صمود رغم الإحباط

وكانت الصدمة الكبيرة هي رؤية الملا مصطفى ببدلة أوروبية رمادية قاتمة، بدت كأنها تقلل من مكانته نوعاً ماً، خاصة لمن تعود رؤيته أو تخيّله ببزته الكوردية البهيّة الملكية الرائعة. وهو في تلك البدلة غير الملائمة لشخصه، بدا لي كصقر وحيد محبوس في قفص.

ولكن، سرعان ما بدأ الملا مصطفى العجوز الطيب بالتحرر من القفص، بكسره وتحطيمه أولاً ثم بالانطلاق منه. بقيت البدلة، لكن الخيال استبدله بزي كوردي متكامل يزينه الجناد (حزام العتاد) الذي يلبسه محارب الجبال.

وكانت الرسالة المموهة هي أن الملا مصطفى لم ينكسر ولم يشعر بالهزيمة. بل قد أتم مهمته في الحرب التي خاضها من أجل الحرية والعدالة وكرامة شعبه، بيد أن الحرب ستستمر، لكن بطرق مختلفة ومبتكرة، وفي ميادين سيشكلها المستقبل.

لم يذكر الملا مصطفى الدكتاتور العراقي صدام حسين وأعوانه البعثيين بالاسم، ولكن كان واضحاً من كان يقصد عندما تلا سورة «التكاثر» من القرآن الكريم، التي فيها وعيد وتهديد للأشرار في هذا العالم الذين سوف يندمون كثيراً على أفعالهم التي قاموا بها بمجرد قيام يوم القيامة:

«أَلۡهَاكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ * حَتَّىٰ زُرۡتُمُ ٱلۡمَقَابِرَ * كَلَّا سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ * كَلَّا لَوۡ تَعۡلَمُونَ عِلۡمَ ٱلۡيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ ٱلۡجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيۡنَ ٱلۡيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسۡـَٔلُنَّ يَوۡمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيم»

يبدو أن البارزاني كان مؤمناً بشكل غير محدود بجيل الشباب من الكورد لمواصلة النضال من أجل الحرية والكرامة. وقال إنه لا يستطيع أن يوصي باتِّباع أي شكل معين من أشكال النضال من أجل الحرية، لكنه كان على يقين من أن جيل الشباب سيبتكر أساليبه الخاصة.

في ذلك الوقت، لم أكن أعرف كيف أفسر رسالته التي بدت لي مبهمة. أما الآن، فأعتقد أنه كان يقصد أن يقول للكورد أن عليهم أن يستصغروا العدو من الناحية الاستراتيجية، لكن في نفس الوقت أن يأخذوه على محمل الجد من الناحية التكتيكية، والاعتماد على الأصدقاء تكتيكياً، لكن من دون الاعتماد عليهم من الناحية الاستراتيجية.

خلال المقابلة، تمكن البارزاني بشكل غير مباشر من إيصال ثلاث رسائل مهمة:

أولاً: إن العراق لن يحقق سلاماً حقيقياً ودائماً من دون أن يفهم واقعه الوجودي كدولة متعددة الأعراق، والاعتراف بذلك.

ثانياً: إن الولايات المتحدة مخطئة في اعتقادها بأنها بتضحيتها بالكورد، قد كبحت انحياز بغداد الحتمي إلى الكتلة السوفييتية.

وأخيراً: إن طهران قد ارتكبت خطأً بمساعدتها صدام حسين على الإفلات من المأزق، أملاً منهم ألّا يشكل تعصبه العروبي الزائف أي تهديد لإيران.

«رقصة دبلوماسية رقيقة»

في بداية المقابلة، أومأ الملا مصطفى نحو أحد الرجلين الحاضرين في الصالون، مشيراً إلى أنه يفضل خروجه من الصالة. فاقتربت أنا من الرجل وقلت له يبدو أن «الضيف المحترم» يُفضل أن يتحدث معي على انفراد. وافق الرجل وغادر الصالون.

وبعد المقابلة، قدم الرجل نفسه على أنه علي أحسني رئيس مكتب العلاقات العامة في جهاز الأمن الإيراني «السافاك». وتبين أنه رجل مهذب لديه تعليمات بمرافقة الزعيم الكوردي أثناء وجوده في طهران، لكن من دون فرض أي شيء عليه.

الرجل الثاني في الصالون كان مسعود بارزاني، الابن المفضل للملا مصطفى. طوال المقابلة كان مسعود واقفاً مستنداً إلى الحائط من دون أن يقول شيئاً. ولكونه ابنا بارّاً صالحاً وفق التقاليد الكوردية، لم يكن ليُجيزَ لنفسه الجلوس أو التحدث من دون إذن من والده. في ذلك الوقت، لم يكن يعلم أحد متى وكيف سيصبح الشاب مسعود شخصية رئيسية في الملحمة الكوردية العراقية.

وبعد أن حصلت على المقابلة، أدركت أنه على الرغم من عدم وجود أمر واضح بشأن عدم منح البارزاني منبراً يدلي منه بتصريحاته، إلا أن الحكومة قد لا ترغب في تركه يدلي بتصريح تستغله وكالات الأنباء - كما تبيّن لاحقاً - وتبثه في جميع أنحاء العالم.

كان وزير الخارجية عباس علي خلعتبري قد أمضى أكثر من عامين في التفاوض على اتفاق مع بغداد للاعتراف بموقف إيران بشأن مصب شط العرب الحدودي، آملين ضمناً في أن تمتنع الجارتان عن الأفعال العدائية ضد بعضهما بعضاً.

والأهم من ذلك، أن الشاه نفسه كان قد منح صدام حسين مؤخراً تكريماً في قمة منظمة «أوبك» في الجزائر، حيث تم الكشف عن المعاهدة التي تفاوض عليها خلعتبري.

وفي وقت إجراء المقابلة مع البارزاني، كانت طهران تستعد لزيارة رسمية لصدام حسين بدعوة من رئيس الوزراء هويدا.

وتأكدت مخاوفي عندما قال غلامرضا تاجبخش، نائب وزير الخارجية للشؤون السياسية الإيراني آنذاك، أن الوزارة سمعت عن محاولات نشر بيان للبارزاني، فأراد تحذيرنا من القيام بذلك.

وكان الحل الذي وجدتُه هو نشر نسخة مختصرة من المقابلة أولاً، في الجريدة اليومية الصباحية «رستاخيز»، وهي الصحيفة الرسمية للحزب الحاكم الذي كان قد أسّسه الشاه للتو. ولم يكن ذلك صعباً لأن شركتنا «كيهان» هي التي كانت تطبع صحيفة «رستاخيز» وكان مديرها مهدي سمسار رئيس تحرير سابق لصحيفتنا اليومية.

المقابلة التي نُشرت بعنوان بارز على الصفحة الأولى في «رستاخيز»، قد أقنعت كل من كان قد يرغب في إبقاء البارزاني صامتاً قبل مغادرته إيران، بأنه لا بد أن المقابلة قد حصلت على الضوء الأخضر من «أعلى المستويات». وبهذه الحجة، تمكننا من نشر النص الكامل من المقابلة في صحيفة «كيهان» التي نُشرت بعد الظهر في نفس اليوم.

لقد أصبحت هذه المقابلة واحدة من أهم الأسباق الصحفية التي حققناها، ورفعت من مستوى توزيعنا بنسبة 10% في ذلك اليوم. (قد لا يبدو ذلك مهماً بالنسبة للقارئ، ولكن بالنسبة للمحرر فهو يحرص دائماً على زيادة التوزيع!)

وبعد أن أجريتُ عشرات المقابلات مع كبار الشخصيات من جميع أنحاء العالم، لم أتوقع مطلقاً أن يحصل الملا مصطفى البارزاني على هذه الشهرة الواسعة.

المهمة التي أوكلها إليه التاريخ

على مدى العقود الماضية، سُئلت مرات كثيرة عن الظروف التي جرت فيها تلك المقابلة.

وقد تساءل البعض عن العنوان العريض الذي استخدمَته «رستاخيز»: «بارزاني: مهمتي اكتملت»، إذ أن هذا العنوان قابل لسوء التفسير، وخصوصاً من قبل خصوم البارزاني السياسيين المتنكرين في هيئة أصدقاء.

البارزاني لم يقصد أنه حقق أهدافه. بل كان قصده هو أنه قد أنجز المهمة التي كلفه بها التاريخ في صراع ملحمي، وأن الأجيال القادمة ستتولى مسؤولية مواصلة هذه المهمة.

لماذا كل هذا الاهتمام بحدث كان ينبغي أن يتلاشى في الخلفية التاريخية؟ 

هل لأن تلك كانت آخر تصريحاته العلنية، إذ لم يمض وقت طويل، قبل أن يداهمه مرض السرطان، ويرحل عن عالمنا في الولايات المتحدة البعيدة؟ ربما!

ولكنني أعتقد بأن الاهتمام المستمر بتلك التصريحات مدفوع بكفاح البارزاني البطولي من أجل حرية شعبه وعدالته وكرامته. وفي المقابلة، يقول البارزاني بشكل مباشر إنه لن يرحل إلى الأبد، بل أعطى وعداً بقوله «سوف أعود».

لقد أوفى البارزاني بوعده، حيث تم نقل رفاته من الولايات المتحدة إلى إيران ليوارى الثرى في أوشنوية، ومن ثم نُقلت رفاته ليُدفن في نهاية المطاف في قريته الأصلية في كوردستان المتمتعة بالحكم الذاتي في العراق.

ولم تكن رفاته فقط هي التي عادت إلى الديار، بل عادت معها تطلعاته.


 أمير طاهري: صحافي إيراني، رئيس تحرير صحيفة «كيهان» الإيرانية الأسبق





X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved