برهان غليون: الكورد حافظوا على سلميتهم رغم تعرضهم للإبادة
برهان غليون: الكورد حافظوا على سلميتهم رغم تعرضهم للإبادة

في ظل تفاقم أزمة الهوية القومية في الدول المتعددة الإثنيات والأديان، وتشابك البُعد الطائفي والقومي مع رهانات السلطة وصراعات الإقليم، بات البحث في صيغ التعايش، والعقد الاجتماعي، وإمكانات بناء الدولة الجامعة ضرورةً فكرية وسياسية لا يمكن تأجيلها. تزداد الحاجة إلى مقاربات فكرية صادقة، تنطلق من التجربة لا التنظير، ومن الوعي العميق بتناقضات الواقع، لا من العزلة الأكاديمية أو المواقف المؤدلجة. ومن بين أبرز من قدّموا قراءات شجاعة وعميقة لهذا الواقع المعقد، يأتي اسم المفكر السوري والبروفيسور برهان غليون، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون، وأول رئيس للمجلس الوطني السوري، وأحد أبرز من حملوا مشروع الدولة المدنية الديمقراطية في مواجهة الاستبداد والتفكك الطائفي.

في هذا الحوار الخاص الذي أجرته معه مجلة «كوردستان بالعربي»، يناقش غليون شروط بناء عقد اجتماعي جديد عادل وشامل، ويقدّم رؤيته النقدية للتعددية والعدالة الانتقالية، كما يستعرض بعض النماذج العالمية، ويحلّل أسباب الفشل السوري، وسبل تجاوز منطق المحاصصة نحو دولة المواطنة.

الصراعات العرقية 

يعيد البروفيسور غليون ظاهرة الصراعات العرقية بين المجتمعات المتعددة إلى عدة أسباب، في مقدمتها السياسات الاستعمارية التي اعتمدت التمييز بين الإثنيات وتحريضها على بعضها بعضاً، واستخدام نزاعاتها لتعزيز سيطرتها على المناطق المستعمرة. ورغم أن هذه السياسة الاستعمارية خلّفت بعد انسحابها دولاً مستقلة شكلاً، إلا أنها خاضعة لها مضموناً، مما أنتج تعميم نموذج الدولة القومية، الذي اعتمد على المطابقة بين الحدود الجغرافية والحدود الثقافية، فتحوّلت جميع القوميات الصغيرة المتعايشة في ظل الدولة الإمبراطورية أو السلطنة إلى أقليات قومية مهمّشة، وتم إقصاء أو تجاهل ثقافاتها وخصوصياتها أيضاً. وأدى التنافس على الموارد المحدودة في هذه الدولة القومية، المنتجة حديثاً، إلى صراعات عرقية وقومية فيما بينها.

والحل، هو التخلي عن مفهوم الدولة القومية الذي ورثته شعوب العالم أجمع عن أوروبا القرن التاسع عشر، وهجرته هي نفسها في أواخر القرن العشرين، بعدما سبب لها من حروب عالمية في النصف الأول من القرن العشرين، واستبداله بالنموذج السائد اليوم، أي دولة القانون، حيث يتمتع الجميع بالحقوق والواجبات ذاتها، كل يمارس حريته وانتماءه وعقيدته ويفتخر بقوميته أو طائفته ودينه كما يحلو له، على ألا يجور على حقوق الآخرين.

الانغلاق القومي وتفكك التعايش

ويرى الدكتور برهان غليون أن السبب الجوهري لصراع الكورد مع الأنظمة السياسية في المنطقة لا يرتبط بوجودهم القومي، بل بتسلّل الفكر القومي الإقصائي إلى بنية الدولة، بدءاً من الطورانية التركية ثم عبر نماذج استنسخت منطقها الإقصائي ذاته. هذا الفكر، كما يؤكد، أطاح بتعايش تاريخي طويل بين المكوّنات، وبدّد أسس العيش المشترك، محوّلاً الدولة إلى أداة قسر لا إلى إطار جامع. فالصراع، في جوهره، ليس بين الكورد والعرب أو الفرس أو الترك، بل بين مشاريع الدولة القومية الإقصائية والتعددية التي ترفضها.

الكورد في العراق نموذج أخلاقي

ويشير غليون إلى نموذج إقليم كوردستان في تعاطيه مع الأحداث بوصفه تجربة أخلاقية مميزة، مؤكداً أن الكورد في العراق، رغم تعرضهم لمجازر وإبادات، لم يُسجل عليهم أنهم مارسوا عنفاً ضد المدنيين، ولم يُقتل جندي عراقي عند انسحاب الجيش، بل استُقبل الجميع في كوردستان باحترام بعد غزو الكويت. وبرأيه، حافظ الكورد على سلميتهم وتفادوا أي انتقام عشوائي، في موقف يعكس نضجاً سياسياً وأخلاقياً. مستذكراً: «كنت من أوائل من أدانوا مجزرة حلبجة، وأصدرت بياناً في ذلك، في وقت لم يصدر فيه مثقفون عرب أي بيانات مماثلة».

اختلاف الهوية

ونتيجة لما سبق، إذا كان تعدد الهويات الإثنية والدينية في مجتمع واحد أو دولة ما سبباً في شقائها، فما الحل؟ يقول البروفيسور غليون: علينا أن ندرك أن اختلاف الهويات لا يحتم نزاعها، ففي كل مجتمع عدد لا يُحصى من الهويات الإثنية والدينية والمهنية والفكرية التي يمكنها أن تتعايش مع بعضها بعضاً وتتصارع فيما بينها، لكن التحدي الذي يواجه بُناة الدول ليس إخماد هذا الصراع إنما تأطيره وتقنينه. وتنجح الدولة في ذلك عند قدرتها على إيجاد مؤسسات تضبط هذا الصراع من دون أن تلغيه. فإذا ألغته خنقت المجتمع وقضت على ديناميته وحياته، وإذا أطلقته على عواهنه دفعته إلى تدمير نفسه بنفسه.

فإذا أخفقت الدولة في ذلك، حتى لو كان رجالها والحاكمين من الإثنية والثقافة والديانة ذاتها، انفض الناس عنها، فالدولة لا تطاع لأنها تصنع هوية الناس، لأن الهوية موجودة أصلاً وسابقة على نشوء الدولة ولا تحتاج للدولة كي تحافظ على نفسها، وإنما لتحقيق مهام مادية وضرورية لاستمرار الحياة الإنسانية من أمن وسلام وضمان شروط آمنة وطبيعية لها.

الظلم.. صناعة سياسية لا حتمية تاريخية

يقول غليون: «الظلم موجود في كل المجتمعات، لكن العدل هو الاستثناء الذي تطلّب تطوراً كبيراً في الوعي السياسي والأخلاقي. التمرد لا ينتج عن الظلم بحد ذاته، بل حين يُستخدم هذا الظلم في خطاب سياسي يهدف إلى التفرقة أو الهيمنة». ويرى أن «خطاب التظلّم» بات وسيلة تبريرية لمشاريع سلطوية أو تقسيمية، ويحذر من استخدام مظالم طائفة ما لتبرير تهميش أو قمع طوائف أخرى، معتبراً أن كثيراً من الخطابات اليوم لا تسعى للعدالة، بل لامتيازات أو تبرئة ذاتية من المسؤولية.

الفيدرالية بين النظرية والتوظيف السياسي

وفيما يخص الفيدرالية كصيغة لحل مشكلة التعدد القومي، يفرق غليون بين التجارب الناجحة كالنموذج الأمريكي، حيث الفيدرالية كانت أداة دمج وتكامل اقتصادي وسياسي، وبين السياق السوري الذي تُطرح فيه الفيدرالية كرد فعل على فشل الدولة المركزية. ويؤكد أن الحل ليس في تفكيك المركز، بل في إعادة بنائه على أسس حديثة: «المطلوب إحياء الإدارة المدنية، وتوزيع الصلاحيات على المحافظات، مع الحفاظ على مركزية السيادة الوطنية في القضايا الكبرى كالدفاع والخارجية والعدالة»، وأن أي مشروع فيدرالي أو لامركزي يجب أن يكون ثمرة حوار وطني واسع، لا أن يُفرض من الخارج أو يُبنى على أسس طائفية أو إثنية، مشيراً إلى أن مهمة رسم ملامح اللامركزية تقع على عاتق مجلس تشريعي منتخب لا على المرحلة الانتقالية.

اما عن سبل بناء عقد اجتماعي عادل بين مكونات المجتمع، الذي كثيراً ما يُنظر إليه في أدبياتنا السياسية كفكرة أسطورية، يرى غليون بأنه ليس سوى الدستور نفسه، باعتباره التجسيد التاريخي للفكرة الفلسفية للعقد الاجتماعي. ويؤكد أن الوصول إليه ليس بالأمر الغامض، بل هو عملية معروفة ومُجرَّبة تقوم على الحوار والمفاوضات بين ممثلي الشعب الذين يجتمعون لصياغة ميثاق جماعي يحدد مضمون الدستور، ويعالج المسائل الخلافية من خلال التوافق والتسويات، ولا يمكن ان يكون الدستور مجرد نسخ للوائح جاهزة، سواء من التجربة الأمريكية أو الصينية، بل يجب أن يُصاغ وفق خصوصيات المجتمع الدينية والثقافية والجغرافية، لمعالجة تناقضاته بشكل عادل. وفي نظره فإن الحل يكمن في التفاوض الديمقراطي، الذي يميّزه عن الصيغ الشكلية، وإن الاتفاقيات لا تكتسب أي شرعية إلا إذا صدر عن مجلس نيابي منتخب يمثل الإرادة الشعبية بجميع أطيافها.

الخصوصيات الثقافية ومنع التمييز 

وحول التوازن بين الهوية الوطنية الجامعة والخصوصيات الثقافية، يقول الدكتور غليون إن الدولة ليست مطالبة بإحداث هذا التوازن، بل يكفي أن تؤدي دورها الطبيعي كدولة ترعى المواطنة المتساوية وتطبق القانون على الجميع من دون تمييز. فالمجتمع، بحسب رأيه، يمتلك ما يكفي من أدوات ومعرفة للتعامل مع الخصوصيات الثقافية والدينية، من إنتاجها وتنظيمها. إلى تطويرها والتفاوض بشأنها، فالناس أحرار في أفكارهم وأديانهم وهوياتهم، ويستطيعون حماية هذه الخصوصيات من دون تدخل الدولة.

وفيما يخص السياسات العامة، يرى أن صلاحيات السلطة التشريعية تشمل إصدار قوانين تجرّم التمييز العرقي والطائفي متى اقتضت الحاجة، غير أن نجاح هذه القوانين يعتمد بشكل أساسي على وجود مؤسسات منتخبة ونظام قانوني قادر على ضمان تطبيقها واحترام مبادئها.

ويعتبر غليون أن مهمة بناء وعي إنساني جامع يتجاوز الانتماءات الطائفية والقومية هو مسؤولية المثقفين والعلماء ورجال الدين والفنانين والأدباء، أي على الثقافة عموماً، وليست من مسؤوليات الدولة. ويرفض فكرة بناء «وعي وحدوي عابر للطوائف» كهدف مجرد، وأن المطلوب هو تعزيز الوعي الإنساني الذي يُمكّن الأفراد من وضع إنسانيتهم فوق كل الهويات والانتماءات. هذا الوعي، في رأيه، هو الذي يسمح بالحوار بدل العنف، ويحوّل التعدد الثقافي إلى مصدر حرية وكرامة وقوة، وأن التنوع الثقافي والديني محرك للتقدم والابتكار، بينما التجانس سمة المجتمعات المتأخرة الرافضة للاختلاف.

ويشير عالم الاجتماع إلى أن ضعف هذا الوعي في مجتمعاتنا يرتبط بضعف القيم التي تنشرها الثقافة الشعبية، خاصة في المسلسلات والبرامج الترفيهية، وكذلك في الخطابات الدينية والقومية، التي تكرّس الانغلاق والتعصب، مشدداً على أن المناهج التعليمية التي تروّج للتمييز وتبرر انتهاك حقوق الآخرين تساهم في تقويض أسس العيش المشترك، لا في بنائها. ويشبّه ذلك بما تقوم به بعض المناهج الإعلامية في الأنظمة التي تكرّس الإقصاء والتحريض.

وبحسب قوله، لا يوجد نموذج عالمي يصلح للتطبيق الشامل في معالجة الصراعات العرقية، لأن ظروف كل مجتمع تختلف. ويستشهد غليون بتجربة جنوب أفريقيا التي يعتبرها فريدة، وغير قابلة للتكرار. ويشير إلى أن النظام في سوريا، على سبيل المثال، كان عاجزاً عن استيعاب مثل هذه التجربة، لأن النظام، بقيادة الأسد، لم يكن مستعداً لأي نوع من التسوية، بل كان هدفه الانتقام من الشعب. الصراع في سوريا ليس ناتجاً فقط عن الخلافات الأهلية، بل عن التدخلات الخارجية والصراع على تقاسم موارد الدولة، وهو ما كان يمكن تجاوزه عبر حوار سوري داخلي صادق لولا تلك التدخلات.

العدالة الانتقالية والاعتراف بالضرر

واخيراً يُعرّف غليون العدالة على أنها تطبيق القانون، ويعتبرها كافية بحد ذاتها، لكن العدالة الانتقالية تضيف عنصراً مهماً يتمثل في الاعتراف بالمظالم والتعويض عنها. وهذا الاعتراف، برأيه، له أثر معنوي كبير على استعادة الثقة والكرامة، وهو شرط أساسي لإزالة الأسباب التي قد تؤدي إلى العنف أو الثأر، ويؤكد أن الحوار الوطني لا يمكن فرضه بالقوة، بل يجب أن يقوم على القبول المتبادل والتفاهم والاستعداد لتقديم تنازلات من أجل الوصول إلى حلول وسط. لكنه يحذر في الوقت ذاته من استخدام الحوار كخدعة لكسب الوقت، كما جرى في التجربة السورية خلال سنوات التفاوض مع النظام، الذي استغل المحادثات لتغطية سياساته القمعية.


علاء الدين آل رشي: إعلامي كوردي، مدير المركز التعليمي لحقوق الإنسان،

رئيس الرابطة الكوردية - العربية



X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved