في قلب الشرق الأوسط، حيث تلتقي الحضارات وتتقاطع مسارات التاريخ، تقف كوردستان شامخة كالجبال الراسخة التي تحتضنها. إنها أرض عريقة نحتت اسمها في صفحات التاريخ بحروف من نور، وشهدت على مر العصور صراعات ومحن لا تحصى، لكنها في الوقت ذاته احتفظت ببريقها وإشراقها كالنجوم السرمدية التي تضيء السماء رغم كل الظلمات التي تحاول إخفاء نورها.
هذه الأرض التي باتت رمزاً للصمود والمقاومة، تحكي قصة شعب رفض أن ينحني أمام العواصف، وأصر على أن يبقى منارة أمل في عالم يموج بالتحديات والصعوبات.
قرن من التحديات والصمود
لقد مضى أكثر من قرن كامل من الزمان على بداية سلسلة طويلة من الممارسات التعسفية والظالمة التي قادتها قوى الظلام والاستبداد ضد الشعب الكوردي الأبي في إقليم كوردستان العراق. هذه المحنة الطويلة بدأت مع مطلع القرن العشرين، عندما بدأت الأنظمة المتعاقبة تمارس سياسات القمع والتهميش ضد الكورد، وما زالت آثارها ممتدة حتى يومنا هذا.
خلال هذه الفترة الزمنية الممتدة، شهدت كوردستان أحداثاً دامية مؤلمة وممارسات تعسفية قاسية، قادتها جهات وأنظمة استبدادية متنوعة. هذه الأنظمة الظالمة كانت تغير أسماءها وأشكالها مع كل حقبة زمنية جديدة، لكنها تبقى متشابهة في جوهرها القمعي وطبيعتها الاستبدادية.
ومع ذلك، فإن كل محاولة لكسر إرادة هذا الشعب لم تزده إلا قوة وتماسكاً، وكأن التحديات كانت وقوداً يغذي جذوة الأمل في قلوب أبنائه. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: لماذا كل هذا الاضطهاد والظلم؟ لماذا كل هذه الممارسات التعسفية المستمرة؟
الجواب واضح وبسيط: لا شيء يبرر تلك الممارسات الوحشية سوى أن الشعب الكوردي النبيل كان ولا يزال متطلعاً إلى الحرية والعدالة والمساواة. هذه القيم الإنسانية السامية تمثل أقصى طموحات الكورد وأعمق أمانيهم، وهي حقوق طبيعية لا يمكن التنازل عنها أو التفريط بها.
إن تطلع الكورد للحرية ليس مجرد رغبة عابرة، بل هو جزء لا يتجزأ من هويتهم وكيانهم. العدالة بالنسبة لهم ليست مجرد شعار، بل مبدأ راسخ يؤمنون به ويناضلون من أجله. المساواة في نظرهم ليست مطلباً تفاوضياً، بل حق أساسي من حقوق الإنسان التي لا يمكن المساومة عليها.
وفي هذا السياق، يبرز سؤال جوهري: ألا يحق لشعب أن يحلم بالحرية؟ ألا يستحق أن يعيش بكرامة على أرضه التي سقاها بدماء شهدائه؟
وهنا يثار التساؤل المحوري والأساسي: هل ساهمت تلك الممارسات التعسفية الوحشية والقمعية في إحلال الظلام والخراب في كوردستان؟ هل نجحت تلك الأنظمة الاستبدادية في كسر إرادة الشعب الكوردي وإخماد جذوة الأمل في قلوبهم؟ هل تمكنت من زرع اليأس والانكسار في نفوس أبناء هذه الأرض العريقة؟
الجواب القاطع والحاسم هو: كلا، بل على العكس تماماً.
لم تؤثر تلك الممارسات الوحشية التي مارستها الأنظمة الاستبدادية الشوفينية في وهج نورهم المشرق أبداً. لم تتمكن كل تلك المحاولات اليائسة من إطفاء شعلة الأمل والتطلع نحو المستقبل المشرق. لم تنجح كل تلك الضغوط والممارسات القمعية في كسر العزيمة الكوردية الصلبة أو تحطيم الروح المقاومة التي تسكن في قلوب أبناء كوردستان.
بل إن هذا الشعب العظيم تحول بفضل صموده وإيمانه إلى مثال يحتذى به في التحدي والمقاومة، وأصبح قصة نجاح تُروى للأجيال القادمة.
والسبب في ذلك واضح ومشرق كالشمس: لأن الكورد قد أصبحوا وباتوا بحق كالنجوم السرمدية الخالدة التي تشع نوراً وضياءً في سماء التاريخ. هذه النجوم لا تعرف الأفول ولا تقبل الانطفاء، مهما اشتدت العواصف ومهما تكاثفت الغيوم المظلمة من حولها.
إن النجوم السرمدية تتميز بخصائص فريدة تجعلها رمزاً مناسباً للشعب الكوردي:
أولاً: تشع بنور ذاتي لا يعتمد على مصادر خارجية، كما أن الكورد استمدوا قوتهم من إيمانهم العميق بحقهم في الحرية والكرامة، ومن تراثهم العريق الذي يمتد عبر آلاف السنين.
ثانياً: هذه النجوم تقاوم كل محاولات الإطفاء والإخماد، تماماً كما قاوم الكورد كل محاولات القمع والإبادة، وخرجوا من كل محنة أقوى وأكثر تماسكاً.
ثالثاً: تبقى هذه النجوم مصدر إلهام وهداية للتائهين في ظلمات الليل، كما كان الكورد مصدر إلهام لكل الشعوب المضطهدة في نضالها من أجل الحرية والكرامة الإنسانية.
الدروس المستفادة والآفاق المستقبلية
إن تجربة الشعب الكوردي عبر القرن المنصرم تقدم دروساً قيمة للإنسانية جمعاء. فهي تؤكد أن الظلم مهما طال لا بد أن ينكسر على صخرة الإرادة الصلبة. كما تبرهن أن النور الحقيقي لا يمكن إطفاؤه بأي قوة في العالم، لأنه ينبع من الأعماق ويتغذى على الإيمان والأمل.
هذه التجربة تعلمنا أيضاً أن الشعوب التي تؤمن بقضيتها العادلة قادرة على تحويل أقسى المحن إلى فرص للنمو والازدهار، وأن الإنسان عندما يتمسك بقيمه ومبادئه يصبح قوة لا تُقهر.
اليوم، وبعد كل هذه المحن والتحديات، تقف كوردستان أقوى وأكثر تماسكاً من أي وقت مضى. إنها تشهد نهضة حقيقية في جميع المجالات، وتسير بخطى واثقة نحو مستقبل مشرق يليق بتاريخها العريق وبتضحيات أبنائها الأبرار.
كوردستان اليوم ليست مجرد إقليم جغرافي، بل هي رمز للصمود والأمل، ومنارة تضيء درب الشعوب التي تسعى للحرية والكرامة. إنها النجمة السرمدية التي ستبقى تشع في سماء التاريخ، تذكر العالم بأن الحق لا يموت وأن العدالة لا بد أن تنتصر في النهاية.
أحمد الحمداني : صحافي وإعلامي متخصص بالأمن والسياسة