10 قرون من الوُجود الكوردي في بابل
10 قرون من الوُجود الكوردي في بابل
August 13, 2025

في بابل أرض الحضارات والتاريخ الذي غزا العالم ومنطلق العمران والآثار ومن أرض الجنائن المعلقة، تجد في رفوف طياتها وربوعها نبع كوردي يتدفق ألقاً وبسمات كوردية متجذرة كالنخيل متمثلة في «محلة الأكراد» التي تقع في القسم الشمالي من مدينة الحلة، ولها تراثها ومعالمها وتاريخها المميز، واجهتها تقع على الضفة الغربية من شط الحلة بأزقتها وشوارعها الضيقة. وبيوتها الصغيرة تتراوح مساحتها بين 50 إلى 100 متر مربع، مبنية من جذوع النخل وعمارتها بطابع الشناشيل وفيها بيوت تصل مساحتها إلى 20 متر مربع.

 يدعي البعض أنها سميت بـ«محلة الأكراد» بسبب وجود «كرد» وهو أشبه بالناعور الذي ينقل الماء من النهر إلى اليابسة. لكن بعض الباحثين نفوا هذا الأمر لوجود آثار وتاريخ وملامح تدل على سلالة الكورد في المحلة. ففي لقاء لـ«كوردستان بالعربي» مع الأكاديمي الدكتور جاسم الخالدي والمهتم بتاريخ العشائر حول محلة الأكراد في الحلة أفاد الخالدي: «لقد سُمِّيَت محلة الأكراد بهذا الاسم نسبة إلى قبيلة (جاوان) الكوردية التي كان لها دور مميز في التاريخ الإسلامي العراقي، ونزلت في المنطقة القريبة من شط الحلة، وبنت عليها بيتاً لتستقر بها، وإن الجاوانيين كانوا زعماء وقادة للجيوش في تلك الفترة، ومن أفضل القبائل تميزاً في الأدب العربي، ولا سيما الشعر وقد برز منهم العلماء والمؤلفون. وحسب التاريخ المختص بمحلة الأكراد في الحلة، فهناك الكثير من الروايات والإشارات التي تتناول إثبات الوُجود الكوردي، وخصوصاً لقبيلة الجاوانيين، وأغلب المصادر التاريخية تعارض كل سبب لتسمية المحلة بهذا الاسم غير الأكراد، فقد سُميت بـ(محلة الأكراد) لوجود الأكراد فيها وليس لشيء مغاير».

فأول من سكن منطقة محلة الأكراد هم أفراد قبيلة جاوان الكوردية الذين جاؤوا إلى المدينة عام 1101 ميلادي، ويعتبرون من مؤسسي مدينة الحلة الحالية. وتعتبر قبيلة جاوان من أبرز القبائل الكوردية وأشهرها صيتاً وكانت المحلة معروفة بهم ومنسوبة إليهم منذ زمن بعيد. وهناك جزء ما زال موجوداً في محلة الأكراد يُطلق عليه «الأكراد الجواني»، كما يلفظه السكان المحليون الآن، والأصح هو «الجاواني» وهو ما يثبت صحة الوُجود الكوردي فيها.

من أهم شوارع المحلة، أو عگودها كما يسميها الناس: عگد السادة والفلاح والشط والجواني والباشا والزبيدي والسويگة والحاج تالي وبيت غزالة والهيتاويين. وفيها سوق كبير يحمل اسم «السويگة» بعد أن سألنا عن سبب التسمية قيل إنه كانت هناك ساقية صغيرة تنقل الماء من شط الحلة إلى بساتين المحلة، وعلى فعلها تمت التسمية.

وتمتاز المحلة بكثرة المعالم الدينية؛ ففيها أكثر من 8 مساجد، ومقام الخضر عليه السلام، ومراقد دينية. وبرزت شخصيات علمية وأدبية كثيرة فيها، وامتازت المحلة بمجالسها الأدبية مثل مجلس عبد السلام حافظ لتفسير نهج البلاغة للإمام عَلِي ابن أبي طالب عليهما السلام ومجلس آل مهاوش وكثير من هذه المجالس والملتقيات كانت تقام في المحلة.

إن أشهر المهن التي امتهنها الأكراد في المحلة هي البناء وصيد الأسماك، ومن العادات التي اعتادها الناس فيما بينهم هي تسمية بعضهم من خلال مهنهم مثل: بيت الخياط أو بيت الخباز أو بيت القصاب، وهكذا لتقاربهم العميق وللدلالة السريعة على المعنى.

أخلاقيات المحلة تندرج ضمن أصول متوارثة في احترام الأسلاف والتجربة الإنسانية السابقة، فقد كان الرجل الكبير السن يحكم المحلة وله السلطة حتى على التحكم بالعوائل الأخرى لتنظيمها وترتيبها وتقويم سلوكها، ويلاقي الاحترام من قبل الجميع.

المحلة في الماضي القريب، وإلى الآن يسكنها العديد من الطوائف والقوميات الأخرى بطابع إنساني متماسك رصين متآخين بالمحبة والوئام، وحصلت بينهم المصاهرة والتقارب المشروع بتوافق.

تغيرت معالم المحلة بسبب التوسع العمراني ومغادرة بعض سكانها الأصليين، وبسبب ما وقع عليهم من ظلم في زمن النظام البعثي المقبور. ففي السبعينات من القرن الماضي تعرض الكورد في بابل عموماً شأنهم شأن الأكراد جميعهم في ذلك الزمن إلى ملاحقات ومضايقات ومطاردات من قبل النظام البعثي؛ مما تسبب إلى إخفاء قوميتهم ونسيان لغتهم ومغادرة مدنهم ليتخلصوا من بطش البعث؛ ولذلك لم تكن نسبة الأكراد واضحة في بابل وإلى الآن هناك مخاوف من العودة إلى هويتهم؛ بسبب الظروف العامة التي يعانيها الكورد في المحافظات الأخرى، وليس لديهم تمثيل سياسي وحكومي لضياع هويتهم.

وصرح المواطن الكوردي سرمد حسين لـ«كوردستان بالعربي»: حالياً هناك وجود للكورد في بابل، ولهم نفوذهم ويعترفون فيما بينهم بقوميتهم الكوردية، لكن لا يصرحون بها للعامة خوفاً من مواجهة مصير مجهول. وتكاد الهوية الكوردية تختفي بسبب هذا التصرف، وقد تغيرت معالم المحلة الكوردية جداً وأغلب البيوت تحولت إلى معامل ومحال وما شابه.

«محلة الأكراد» في الحلة تناولها باحثون عديدون، وكتب عن تاريخها عدة كتب. وينقل التاريخ أنه حصلت فيها في الماضي البعيد أحداث مهمةً وحروب وفعاليات عامة كالدينية والعلمية والأدبية، وفي الماضي القريب كمقاومة الاحتلال البريطاني والنشاطات المذكورة سلفاً التي أثمرت حينئذ بعدة مجالات في التأثير في مجتمعها.


حسين جنكير: شاعر وكاتب مسرحي 


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved