في قرية شية بمنطقة عفرين، هناك حيث الذاكرة الحيّة المعطّرة برائحة الزيتون، والغارقة بمشاهد سلال مواسم القطاف، أبصرت الفنانة التشكيلية نائلة حكمت النور، تلك الباكورة من طفولتها التي عاشتها بين أحضان الطبيعة الكوردية، تركت بصمتها على لمسات فرشاتها، فالطبيعة لم تكن مجرد خلفية لحياتها، بل المصدر الأول لخيالها ومولد انطباعاتها عن الفن والجمال.
وبين تلال عفرين، في بساتين الزيتون المتعانقة مع سفوح الجبال، ترعرعت نائلة حكمت في بيتها الصغير المختبئ بين الأشجار الشامخة وجهاً لوجه مع رياح الشتاء، وبعدها رياح الحرب التي اقتلعتها من جذورها وقادتها إلى مرافئ أخرى، لتصل في عام 2014 إلى مدينة «أودنسه» في الدنمارك.
مجلة «كوردستان بالعربي» أجرت حوار مع الفنانة التشكيلية نائلة حكمت، للغوص في رحلتها الفنية والإنسانية معاً. تقول: ولدتُ في أسرة ذات طابع قومي وطني، غرست بداخلنا تمسكنا بثقافتنا الكوردية، فغلبت على لوحاتي القضية الكوردية. ورغم أنني عشت معظم حياتي في مدينة حلب، وتخرّجت من قسم اللغة العربية في جامعتها عام 2011، إلا أن ريف عفرين الهادئ الخلاّب لم يغب يوماً عن لوحاتي الفنية، بل مزجت ريشتي بين مشاهد الطبيعة الكوردية وإيقاع المدينة الصاخب.
رياح الحرب
زادت الحرب تمسك حكمت بالفن كوسيلة حضارية لمواجهة فوضى الحروب، فبدأت في نهاية عام 2014، بدراسة الفن في «أكاديمية الفن المعاصر» في مدينة أودنسه بالدنمارك، تصف تجربتها قائلةً: خلال دراستي في الأكاديمية، تناولت قضايا الحرب وضحايا «داعش»، ظهرت المرأة الكوردية في لوحاتي، لكنني لم أرسمها يوماً كضحية بل امرأة قوية قادرة على مواجهة الحياة.
وخلال مرحلة الدراسات العليا في الأكاديمية عام 2022، عرضت الفنانة مشروع تخرجها الذي كان عبارة عن سلسلة من لوحات فنية تعكس جانبين من ذاكرة الطفل، الأول: الذاكرة المشتركة للأطفال من مختلف الثقافات، فكل الأطفال يملكون نفس الأحلام، والثاني: ذاكرة الأطفال الذين عاشوا تجربة الحرب، الممتلئة بآلام والمآسٍ. وخلال المشروع الذي عرضت الطائرة الورقية التي رسمتها وصنعتها على وجهين، الأول الطائرة الورقية الملوّنة ثم تتحول إلى تلك الطائرة الحربية التي قصفت منازلهم وشوّهت ذاكرتهم البريئة، في محاولة لتجسيد الأثر النفسي العميق للحروب على ذاكرة الأطفال.
الحياة في لوحة
نظّمت حكمت العديد من المعارض الفردية والجماعية في أوروبا، منها معرض «راسموس» في أودنسه عام 2021، ومعرض فردي في دار الأوبرا في الدنمارك 2022، ومعرض فردي في ثانوية «بريدراب» في الدنمارك عام 2023، ومعرض جماعي في مدينة «أدنبرة» في بريطانيا عام 2022، تعرض لوحاتها بطريقة الجرافيك (الصور المائية) والحفر والزخرفة، وتكشف ارتباط هذه المعارض بشخصيتها الفنية: نتيجة للحرب السورية التي عشتُ تفاصيلها، لم أستطع يوماً أن أفصل نفسي عن هذه التجربة القاسية، معظم أعمالي تتحدث عن الحرب، وأقوم باستخدام بعض أقمشة الملابس كشاهد على المفقودين والمختطفين والضحايا.
وتكمل الفنانة حديثها: أركز على فكرة العمل ومفردات اللوحة التي أرسمها، استخدم الورق و الأقمشة و الألوان لإبراز الهدف منها، أرسم أحياناً مشهد طبيعي صامت هادئ يوحي بالفراغ وغياب الأشخاص، لتسأل الصور من يشاهدها عن الأهل والأحباء، كأنها تقول: أين هم الآن؟ أيضاً أرسم اللوحات الواقعية، أحاول خلق لوحة واقعية معاصرة تخرج من الإطار الكلاسيكي وتتجاوز الجانب الجمالي للعمل فقط.
وعن تجربتها في أكاديمية الفن المعاصر في الدنمارك، توضح: دراستي في الأكاديمية ساعدتني على فهم طبيعة العمل الفني بمختلف أنواعه، ومواكبة الدراسات الحديثة للفن التشكيلي في أوروبا، مضيفةً: الفن التشكيلي الغربي يركز على المغزى من كل لوحة، اليوم أصبح الفيديو الرقمي جزءاً من هذا الفن، ولم تعد اللوحة وحدها تُعرض في المعارض الفنية، بل دخلت أيضاً الصور الفوتوغرافية واللوحات المائية والأقمشة والملابس والأقنعة وغيرها من الأدوات.
وتختم الفنانة نائلة حكمت حديثها بالقول: أعمل حالياً استشارية في نقابة الفنانين الدنماركيين، وهذا يعتبر خطوة مهمة لإثراء تجربتي الفنية وتوسيع دائرة العمل مع فنانين آخرين من ثقافات مختلفة. أتمنى أن أنقل تجربتي يوماً ما إلى مدينتي عفرين، وأفخر بكوني فنانة كوردية واجهت الهجرة والنزوح والغربة بالفن، أقسى تجارب الحياة أن تشاهد مدينتك التي عشت وكبرت فيها تجتاحها نيران الحرب، هذا ما شعرته به عند احتلال مدينة عفرين عام 2018، كان حدثاً مفصلياً في حياتي، وكافياً لنقله فنياً وتحويله إلى لوحات ومعارض تحكي عن الماضي والمستقبل.
سهى كامل: صحفية سورية مقيمة في كوردستان