محمد كردعلي مؤسس أول مجمع للغة العربية
محمد كردعلي مؤسس أول مجمع للغة العربية

محمد كردعلي أحد أبرز المفكرين الرواد في النهضة الفكرية العربية الحديثة، كان له دور محوري في إعادة صياغة الفكر العربي من جهة، ومن المساهمين للتأسيس في نقد التراث بأسلوب علمي وعقلاني من جهة ثانية. أشعل جذوة التفكير والإصلاح المستمر أثره إلى اليوم في زمنٍ كان الوعي الجديد لا يزال يحبو بين ركام التراث القديم متجهاً إلى التحولات الجديدة التي بدأت تتشكل سريعاً.

كانت الدولة العثمانية تلفظ أنفاسها الأخيرة وكانت الشعوب المنضوية تحت ظلها تحاول بأي شكل من الأشكال القفز من السفينة الآيلة للغرق ولو تعلقت بقشة، لكن هذه القشة كانت احتلالاً غربياً متناقضاً كل التناقض مع ما كانت عليه، سواء كان ذلك على الصعيد السياسي بتبعيتها للدولة العثمانية المحافظة لقرون، أو حتى على الصعيد المجتمعي المحافظ بدوره بشكل كبير، فكانت جهود محمد كردعلي ميزاناً ساهم في تعادل الحداثة والتراث بشكل ملموس في مجتمع الفكر العربي، وبخاصة في بلاد الشام وفي سوريا بشكلها الحالي منذ خروجها من السيطرة العثمانية بالتحديد.

محمد فريد بن عبد الرزاق بن محمد - وهذا اسمه الحقيقي - ولد في دمشق عام 1876 لأب كوردي من أسرة من السليمانية من سلالة الأيوبيين، هاجرت إلى دمشق قبل ولادته بعقود، وأم شركسية من القفقاس. والده التاجر والمزارع الذي عني بتعليمه وهو صغير غادر الحياة ونجله لا يزال في سن الثانية عشر من عمره، فاستمر في التعليم الخاص والرسمي حتى غدا متقناً وعالماً بالعربية والفرنسية ومتذوقاً للفارسية.

حكاية اسمه كردعلي.. واعتزازه بأصله

يقول كردعلي في صدارة مذكراته إن والده سماه محمداً ولقبه بفريد جرياً على العادة العثمانية المستمرة بين الأتراك حتى اليوم في اختيار اسم ولقب لكل مولود. وكان عادة العثمانيين في المدارس أن ينسبوا الطالب إلى محلته، فأخفى اسم محلته الحقيقية (زقاق البرغل) حتى لا يلصق به وادعى أنه من حي التعديل فكان اسمه في المدرسة محمد تعديل. ثم إنه حين توظف في الحكومة اكتفى الموظف العثماني باسمه ولقبه كما كان السائد حينها فكان محمد فريد. لكنه حين بدأ بالكتابة اختار اسم لقب عائلته (كردعلي) ثم تبين له أنه خيراً فعل، وإلا لاختلط اسمه بين الأسماء الشائعة جداً حينذاك.

يقول: «جاء جدي من مدينة السليمانية من بلاد الأكراد (شمال العراق)... فأنا على رغم من آمن وكفر من جنس آري لا يقبل النزاع، وليس للشرقي ولا للغربي ما يقول في دمي... سماني أبي محمداً وكناني بفريد... ولما بدأت أكتب في الصحف كان أقصى همي أن أعود إلى اسمي الأول ولقب بيتنا القديم، فاخترت كردعلي».

وقد ناكده الكثيرون في اسمه هذا، لكنه لم يلق لهم بالاً، بل وصل الأمر ببعضهم إلى محاولة حرمانه من راتبه التقاعدي بادعاء شهود زور أن محمد فريد الموظف غير محمد كردعلي، لكنه استطاع إثبات عكس مدعاهم بشهود عدول! وفي المقابل صار البعض يدلـله باسم (كردي بك) كما كان يفعل وزير المعارف في مصر حينها، لكنه لم يكن يعجبه إلا اسمه الذي اختاره (محمد كردعلي). واليوم فإن اسم محمد كردعلي أشهر من نار على علم بل يكاد يكون أشهر عَلَم من رواد النهضة العربية في سوريا على الإطلاق.

بداية مسيرة الإنتاج الفكري من الصحافة 

كان كردعلي يبرز في كل مجال يطرقه بنفسه أو يُسند إليه. فقد توظف في دائرة الأمور الأجنبية أواخر العهد العثماني فبدأ نتاجه بالصحافة إذ كُلِّف بتحرير جريدة الشام، وكان خلالها يراسل المقتطف في مصر، وتنقل بين مختلف الدوريات العربية حيث كان يقيم في مصر أو الشام، لكن سياسات التتريك والانقلاب العثماني أجبرته على مغادرة دمشق ومصر معاً حيث كان يصدر ويحرر وينشر في دورياتهما، وحينها بدأت مرحلة جديد من حياته هي:

كردعلي الرحالة 

تنقل كردعلي بعد ذلك بين إسطنبول وفرنسا وإيطاليا وسويسرا والمجر. وكان خلال ذلك كله ينشر في الدوريات العربية حتى نشوب الحرب العالمية الأولى حيث عاد إلى دمشق ليرأس جريدة «الشرق» العثمانية التي كانت لسان حال الجيش العثماني، لكن روح الرحالة فيه لم تتوقف فقد كان يسافر إلى العديد من الدول الأوروبية ممثلاً لسوريا الجديدة بعد خروجها من السيطرة العثمانية.

تأسيس المجمع العلمي العربي 

بعد قيام الحكومة الفيصلية، عُهد إلى كردعلي سنة 1919 بديوان المعارف للنظر في أمور اللغة العربية والثقافة والتأليف والمكتبات ليتحول الديوان بجهوده بعد سنة إلى المجمع العلمي العربي كأول مجمع لغة عربية يهدف إلى إصلاح اللغة العربية، ويقوم بتعريب الكلمات الوافدة، ويسهم في تدقيق الكتب، ويسعى لإحياء المخطوطات، ويشجع على التأليف والترجمة. فكان له الأثر الكبير في تعريب التَّعليم وبقية مؤسسات الدَّولة، وإنشاء المدارس الأولى في سوريا والدُّول العربيَّة. ولا تزال سوريا إلى اليوم، وبجهود هذا العلامة الكوردي، رائدة في التدريس بالعربية لجميع التخصصات، العلمية منها والأدبية، وفي كافة المراحل الدراسية.

اندمج هذا المجمع مع مجمع اللغة العربية في مصر أيام الوحدة ليعود بعد الانفصال إلى استقلاليته باسم مجمع اللغة العربية في دمشق، وبقي رئيساً له حتى وفاته، وكان يلقب بـ«الأستاذ الرئيس».

الوزير محمد كردعلي 

إضافة إلى رئاسته للمجمع العلمي، تقلد وزارة المعارف في عهد الحكومة الفيصلية عام 1920 كأول وزير للمعارف في سوريا، ثم تولى من جديد الوزارة نفسها إبان الاحتلال الفرنسي 1928 وخلالها كانت له صلات كثيرة مع المستشرقين في زياراته لأوروبا.

المؤلف والمحقق والمترجم والمؤرخ 

لم تكل يده ولم يهن عقله ولم يجف مداده طيلة سنوات حياته، إذ ألّف في الكثير من المواضيع، وترك ثروة كتابية ضخمة، حتى أن بعض مؤلفاته لم تجد النور حتى اليوم، ولعل أشهر مؤلفاته التي أبرزت دوره كمؤرخ غير تقليدي هو كتاب «خطط الشام» في ستة مجلدات، وأيضاً كتاب «أمراء البيان» في مجلدين اثنين، وكتاب «القديم والحديث» تناول فيه نظرته إلى الحداثة مع احترام التراث والاستفادة منها مثلما فعل في كتابه «الإسلام والحضارة العربية». وإضافة إلى التأليف، فقد نشط كردعلي في تحقيق المخطوطات، ومنها تحقيقه لكتاب «تاريخ حكماء الإسلام» للبيهقي، و«رسائل البلغاء» حيث جمع وأخرج الكثير من الرسائل الأدبية العربية في التاريخ في كتابٍ واحد. أما في مجال الترجمة، وهي أولى نتاجاته، فكانت ترجمة رواية «قبعة اليهود» من الفرنسية،  ثم تلاها بترجمات أخرى من أهمها كتاب «تاريخ الحضارة»، وقبيل وفاته كتب مذكراته في أربعة أجزاء لاقت ضجيجاً واسعاً ولا يزال.

وأحمد كردعلي أيضاً

لعل معظم المطلعين لا يعرفون أن له أخاً سار مساره، لكن وفاته المبكرة (عام 1927) بعمر السابعة والأربعين، وطغيان اسم أخيه عليه كان عائقاً في نيل حقه من الشهرة.

كان من أبرز أعضاء (جمعية النهضة العربية)، يتقن الفرنسية والتركية، أنشأ جريدة «المقتبس» التي استمرت إلى ما بعد وفاته، وتعد مقالاته في جريدته، التي تعرضت للقمع مراراً كما صاحبُها، ثروةً معرفية وثائقية بالغة الأهمية في نهايات العهد العثماني وبدايات العهد الفيصلي في سوريا.

وأخيراً فإن هذا الكوردي الأيوبي الذي توفي في دمشق عام 1953 والقادم أجداده من السليمانية في كوردستان، لم يكن مجرد مفكر أو أديب أو مؤرخ أو محقق فحسب، بل كان رحّالة في عوالم العقل والنهضة، يمد جسور الريادة بين الماضي والحاضر، ليزرع بذور التغيير الإيجابي في فكر الأمة. لقد كتب محمد كردعلي فصلاً بل فصولاً لا ينتهي أثره في مسيرة العرب الحضارية في بناء وعي جديد متوازن، من دون إفراط أو تفريط، فكان بحق رائداً فكرياً ألهم أجيالاً عدة ولا يزال.


أحمد معاذ يعقوب أوغلو: كاتب وباحث يعمل في مؤسسة فامر للدراسات والأرشيف العثماني


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved