رحل عنا مؤخراً أحد أعمدة الفن الكوردي، قرني جمیل، الذي لم نلحظ غیابه كثیراً لأنە فعلاً موجود في كل ضربة فرشاة صعقت الكناڤاس، لقد غیرت لوحاته مفهوم الجدران والتعلیق، تحث نفسها في مخیلة المشاهد، معاناة استحالت إلى أفكار مجبولة بألوان طینیة وغبار كوني وتراب جیري یبعث بمشاعر الحزن والتشائم من الوجود واللاوجود علی حد سواء.
قرني جمیل فنان استثنائي استطاع عبر ردح من الزمن أن ینقل أحزانە ومعاناته في شنافته - جعبة معلقة علی كتفه - بكل صدق من المنافي وصولاً إلى كوردستان، لیضفي علی تجربتە أسالیب وتقنیات جدیدة تنبه العالم إلى هول كارثة ما، ربما حصلت أو ستكون الأسوأ في تاریخ البشریة نحو أسوأ المنحدرات الوجودیة وسقوط الإنسانیة بصورة عامة نحو تلك الهاویة المجهولة.
أبی قرني أن یعترف بالانكسارات والانهزامات التي باتت جزءاً لا یتجزأ من كینونة الإنسان فصاغها بعدة أشكال لیحولها من شظایا الكینونة إلى لوحات فنیة بلغة البشریة جمعاء وهي لغة الفن التشكیلي.
قارع قرني جمیل الاغتراب بشتی أنواعه حتی وصل إلى مرحلة تحقیق الذات تجسدت في تأسیس مدرسة فنیة خاصة بدأت من ذاته وانصهرت في المجموع، لیترك خلفه عشرات التلامیذ الذین سیكملون مشوار غربته بأسالیب مختلفة.
حاولتُ الولوج في دواخل لوحاته، علني أری أجوبة أكثر إقناعاً في ماورائیاتها المكثفة بأسئلة الوجود والزوال، لكن من دون بصیص أمل أو خیط رفیع یعد بالانفراج؛ وبلا جدوی وفي كل مرة تمعنت في لوحة لقرني جمیل شممت رائعة التراب والمطر قبل أن أتمعن أكثر وأراها انعكاساً أنطولوجیاً للبراكین المتوهجة داخله. وطالما سألت نفسي: كیف یمكن لإنسان أن یحمل كل هذه الانفجارات العظیمة بداخله؟ لا یمكن لقرني جمیل أن یخفي كل هذا الحزن والكرب خلف ابتسامته البسیطة التي لا تفارق خیال من عرفه شخصياً. لقد وجد منفذاً آخر لدفن كل هذا التشاؤم، لأن حزمة الانفعالات والبنیة الفكریة المختبئة خلف لوحاتە تحث المشاهد علی فرز أفكار خاصة مرتبطة بالوجود والعدم، الخیر والشر، لیعید ترتیب كل هذه الأمور في فكره بدینامیكیة مطمورة تحت جدار الأسئلة الأزلیة البائسة.
یمیل البشر إلى الاتفاق حول الجمال، عوضاً عن خلافهم المستمر حول السیاسة والأدیان والعقائد. ولك أن تجمع عدة أشخاص في غرفة وتدعهم یناقشون موضوعاً سیاسیاً، أو عقائدياً، أو دینياً، سترى الخلاف یشب بینهم وتشتعل نار الحقد والضغینة ویبدأ التخاصم وربما العراك. لكن أرِهم لوحة مبدعة أو أسمعهم موسیقی جمیلة، سیهدأ الجمیع ویبدأون بالتآلف وإن كانت أذواقهم مختلفة.
قرني جمیل هو أحد الأسماء اللامعة التي ولدت من رحم هذه المعاناة، ولقد زرت عدة معارض له، حاملاً سؤالاً واحداً، خارجا بالكثیر من الأسئلة، لمعرفتی السابقة بحجم الهموم التي یحملها علی كاهله وبإمكانیاته الهائلة في تشفیرها والتعبیر عنها كالألوان المسكوبة بدقة فوق جدران معارضه التي تتشكل كلوحات بلا أطر، تسلسلاً دراماتیكیاً. فمن لوحة إلى أخرى، لن تشعر بفراغ أو بلون الجدران، بل بانسیابیة لونیة فذة تمتد كبانوراما فنیة مسكوبة علی جدار الصمت. لكن المبحر في ما وراء اللوحات، یكاد یسمع أنیناً سمفونیاً، وكأنه شاهد علی انبعاث أو هرم أو هباء. لذلك یكون الزائر شاهداً علی مآسٍ مروعة أكثر مما یكون زائراً، شاهداً علی هذه البانوراما الكونیة التي هي أشبه بسمفونیات خیالیة تحدث في النفس رهبة الزوال قبل الانبعاث.
الفن والإبداع
یعتبر تذوق الفن من المقاییس الإنسانیة الأساسیة التي نثبت بها إنسانیتنا، كون الإنسان هو الكائن الوحید الذي یتذوق الفن عوضا عن الكائنات الأخری، من دون أن یعرف أحد لحد الآن ما هو سبب تذوقه للفن والإبداع. إنه السر الأزلي الكامن في تذوق الإنسان للفن والإبداع دون باقي الكائنات التي ربما تنتج فناً راقیاً كخیوط العنكبوت أو نسیج أعشاش الطیور أو أودقة ونسق خلایا النحل، الذي لا یمكن نعتە بالإبداع وإن كان فناً، كون هذه الكائنات تنتجە من أجل بقائها وفق نسق جیني یسمی بالفطرة. لكن الإنسان هو الكائن الوحید الذي بمقدوره إنتاج الفن وخلق الإبداع، من دون أي سبب یرتبط بالصراع من أجل البقاء، فربما لو تعمقنا أكثر، سنجد أن الإنسان، دون الكائنات الأخری، یمجد الخیر بتسقیطه لمفهوم لشر من أعماله الإبداعیة، وإن كان ذلك جزءاً لا یتجزأ من الصراع من أجل البقاء، لكنه یحمل روحاً إنسانیة أرقی وأعلی مما تنتجه باقي الكائنات أو بصورة أكثر تعقیداً.
یعتبر التشكیل، وكأي فن مرئی آخر وبأبسط أنواعه، عملیة متكاملة بین المرسل المشحون برسالة نبیلة من شأنها إعلاء الحق والعدل والسلام أو تمجید الأعمال البطولیة ودعم الخیر في حربه الأزلیة علی الباطل، إلى المتلقي الذي یستحسن نبل الرسالة وتمجیدها للخیر، ومدی تأثیر تلك الرسالة علی حواس المتلقي ونفسیتە. لذلك نجد المتلقي الذي یتلقی تلك الرسالة النبیلة یتأثر بها حسب واقعه وبیئتە، لكن رغم ذلك تبقی هناك أحاسیس مشتركة بین بني البشر من دون أن یكون لهم عرق أو ثقافة مشتركة، وهذا ما یلغي هویة الفن.
أنطولوجیاً، تُعتبر لوحات قرني أحافیر فیزیقیة في وضح الخیال، أشبه بأغنیة یائسة أو دندنة غیر مفهومة لراهب في معبد الوجود، بإیقاع متناسق ضمن فضاءات أوسع ومنظومات لا یمكن تصورها حتی. لوحاته أوسع من أن تؤطر بأي إطار والواحدة هي تكملة للأخری حیث تحوي النسق المطلوب ضمن قوانین علم الجمال Aesthetic، هذا النسق الذي یتمثل في مقاییس محسوسة، یتم تحدیدها بأطر جمالیة متفق علیها بتآلف كوني تم تتویجه بنسب ریاضیة، لیس الخطأ خیاراً فیها.
یعتمد أسلوب قرني جمیل علی الألوان أكثر من التفاصیل، ولم یكن یرسم ما یراه، بل كان یرسم ما یشعر به، لذلك تكون ألوانه أشبه بالتكون الطبیعي الذي یتجسد في النسب الذهبیة «فاي» التي یرمز لها بالیونانیة أي النسبة 1.61803300. تُعتبر هذه النسبة هي الأمثل لقیاسات النسق، سواء كان في مقاییس جسم الإنسان، كالمسافة بین العینین والمسافة بین الأذن والأنف؛ أو النسق الذي یتحكم بجمال خلایا نحل العسل وألوان الطبیعة كلون الماء والحجر والسماء والتراب، وألوان الزهور أو الغروب لیلاً.. الخ. حیث تعتبر كل هذه التفاصیل مواد أولیة ضمن هذا النسق الكوني الكبیر. والعلم الذي یحاول تفسیره، حیث یجد الشاهد كل هذا النسق في لوحات قرني جمیل. لذلك فهو جزء من هذه المنظومة الكونیة الفذة التي یحاول علم الجمال بحثها وتفسیر مكامنها.
التسلسل اللوني والنسق بین مكونات اللوحة یدخل ضمن هذا الحیز، من دون أن یخطط قرني له، أي أنها لوحات طبیعیة بالفطرة، ونسقها هذا یمنح شاهدها انطباعاً أقرب إلى التشاؤم، ويجعله شاهداً علی تراجیدیا الحضارة ووهم الإنسان، تلك التراجیدیا التي نعیش كلنا ضمن طیاتها لتنتهي بموت زؤام ونهایة لامنطقیة.
غیاث الدین نقشبندي: كاتب وصحفي