من مدينة كركوك التاريخية، وأزقتها القديمة، تصدح أنغامٌ خالدة تنبض بالفن، حاملةً معها إرثاً موسيقياً عريقاً يتجاوز حدود الزمان والمكان. هنا، في «بيت المقام العراقي» تتجسد حكاية التراث الحي الذي يرويه فنانون يتقنون لغات المدينة الثلاث: العربية والكردية والتركمانية، في توليفة موسيقية تعكس التنوع الثقافي الفريد لكركوك.
قيادة تؤمن بالهوية.. وتغني للحياة
يدير «بيت المقام العراقي» في كركوك العازف أحمد فائق رشيد بابان، المعروف بـ«أحمد الرصافي»، وهو موسيقي وعازف على آلة السنطور. يقول الرصافي عن هذا البيت إنه أكثر من مجرد مركز فني؛ بل هو «مشروع ثقافي وإنساني نابض بروح التعدد والتآخي».
يؤكد الرصافي في حديثه لمجلة «كوردستان بالعربي» أن «تجربتنا في بيت المقام تجربة فريدة، وفرقتنا تعكس تنوع كركوك الثقافي، فنؤدي الأغاني التراثية بلغات المدينة الثلاث، وهو ما يعزز التعايش السلمي، ويبرز غناها الفني».
ويتابع الرصافي قائلاً: «إن انطلاقة بيت المقام العراقي تعود إلى عام 1994، في فترة كانت فيها الفنون التقليدية تواجه خطر التراجع والاندثار. جاءت المبادرة من مجموعة من الفنانين والمثقفين الرواد في كركوك، منهم يحيى إدريس، وخالد السامرائي، ومقداد محمد، وهاشم زينل، ومحمد رؤوف. ومنذ ذلك الحين، أصبح (بيت المقام) منارةً لإحياء هذا الفن الأصيل، ومنصةً لتنظيم الأمسيات الدورية التي تحافظ على هذا التراث الحي وتنقله للأجيال القادمة».
يتألف الفريق الموسيقي الأساسي في البيت من خمسة عازفين يتقنون العزف على آلات الطبلة، والرق، والجوزة، والكمان، والسنطور. وفي بعض الأحيان، ينضم إليهم عازفو القانون والعود والناي، مما يضيف عمقاً وتنوعاً للأداء الموسيقي.
وفي هذا السياق، يوضح العازف والموسيقي سيروان عمر، نقيب فناني كوردستان - فرع كركوك: أن «المقام ليس مجرد قالب جامد، بل هو كيان حي يتنفس ويتطور مع كل أداء». ويضيف: «ويكمن جمال المقام في قدرة العازف على استكشاف دروبه اللحنية المتعددة، وهي عملية نسميها (التحويل) أو (التحليل) التي تثري الإحساس السمعي، وتمنح الموسيقى بعداً تعبيرياً لا مثيل له».
ويكمل عمر حديثه شارحاً الخصائص العميقة لهذا الفن مع بعض التفاصيل.. فـ«مقام الراست، على سبيل المثال، يُعد (سيد المقامات) بنغماته العالية والمؤثرة، بينما يبعث مقام النهاوند على الهدوء، ويحمل الحجاز شجناً دافئاً، في حين يبعث البيات البهجة». ولا يغفل سيروان عن ذكر المقامات الأكثر تعقيداً وعمقاً مثل السيكاه، والصبا الحزين، والعجم المبهج، ومقام الكرد ذي الطابع العاطفي العميق. إن فهم المقام لا يقتصر على الاستماع إليه؛ بل يتطلب التعمق في بنيته الفنية الدقيقة. وتشمل أدواته الرئيسية: السنطور، والجوزة، والدف الزنجاري، والنقارة، والدمبك. وتعتمد بنيته اللحنية على مقامات مرتبة ضمن «فصول» محددة، مثل فصل البيات أو الحجاز. ويُقدم الأداء وفق تسلسل فني دقيق يمر بمراحل متعددة: البدوة، الجلسة، الميانة، القرار، والقطع والتسليم، وهي مراحل تُبرز مهارات المؤدي وقدرته على التعبير الفني».
ويشير عمر إلى أن البنية الأساسية لأي مقام تتشكل من ثلاثة عناصر متكاملة: «السلم الموسيقي الذي يمثل الإطار النغمي للمقام، والزخارف اللحنية التي تمنحه شخصيته المميزة، بالإضافة إلى النغمات الرئيسية التي تعد بمثابة نقاط ارتكاز تحدد هوية المقام وتوجه مساره اللحني وفرادته».
نضال من أجل البقاء
على الرغم من الأهمية الثقافية لـ«بيت المقام العراقي»، إلا أنه يواجه تحديات جمة، أبرزها غياب الدعم الحكومي. فمشاركات البيت في مهرجانات محلية ودولية، مثل مهرجان أذربيجان للمقام ومهرجان بغداد الدولي، ومهرجان علي مردان بالإضافة إلى تنظيم الأمسيات بلغات المدينة الثلاث، التي تتم جميعها بتمويل شخصي من أعضاء البيت.
وفي خضم هذه التحديات المالية، برزت مواهب شابة واعدة، مثل أحمد نجيب، قارئ المقام الذي نشأ على أصوات الكبار. يروي نجيب بداياته الملهمة قائلاً: «كنت أستمع منذ طفولتي إلى القراء في مجالس المدينة، وشعرت أن المقام هو طريقتي للتنفس. عندما غنيت أول مقام أمام جمهور صغير، أيقنت أن هذا هو طريقي».
ويرى نجيب أن هناك أبعاداً أعمق تميز قارئ المقام الحقيقي، قائلاً: «الصوت مهم، لكن ليس كافياً، قارئ المقام الحقيقي هو من يفهم الروح، يعرف الأصول، ويعيش المقام كجزء من وجدانه. المسألة ليست أداء بل صدق وإحساس وتواصل». هذا التركيز على الروح هو ما يميز الأداء الأصيل للمقام.
وفي محاولة للحفاظ على هذا الإرث، أطلق «بيت المقام» في عام 2021 مشروعاً طموحاً لتوثيق المقامات بلغة متعددة، بدءاً بتسجيلات للفنان محمد رؤوف، بهدف بناء أرشيف صوتي شامل، إلا أن هذا المشروع لم يكتمل بسبب نقص التمويل المادي.
ولا تقتصر التحديات على الجانب المالي فحسب؛ فالبنية التحتية لـ«بيت المقام» تعاني أيضاً. يشير الرصافي إلى الحاجة الملحة لترميم المبنى وتجهيزه بالأثاث والآلات، بالإضافة إلى غياب الأزياء الفولكلورية اللازمة للعروض. هذه العوائق تؤثر سلباً على قدرة البيت على جذب الجمهور والمواهب الجديدة، مما يضطر الفريق للتدريب في قاعة صغيرة داخل مبنى القشلة الأثري المهدد بالانهيار.
المقام.. وجدان وتاريخ وهوية
ولكركوك دور فريد تلعبه في تشكيل ذائقة قارئ المقام، يقول أحمد نجيب: «كركوك مدينة متعددة الثقافات، ومزيجها الغني يُضفي على قارئ المقام نكهة خاصة، ويفتح لها أبواباً لفهم أعمق للأنغام والتقاليد». ويرى أن بعض المقامات تعبر عن روح كركوك على نحو خاص، «نعم، مقام البيات مثلاً يحمل شيئاً من حزن المدينة ودفئها، وهناك مقامات أخرى تشبه لهجة ناسها ولهيب صيفها».
وعلى الرغم من الصعوبات كلها، يواصل «بيت المقام العراقي» في كركوك سعيه الدؤوب للحفاظ على هذا الإرث الثقافي وتطويره، وهذا ما أكده أحمد الرصافي، مدير بيت المقام العراقي في كركوك، بقوله: «المقام ليس مجرد طرب أو أداء موسيقي، بل هو وجدان المدينة وتاريخها الذي يُقرأ بالأصوات، وهوية فنية وطنية لا تحتاج إلى ترجمة. إنه النغم الذي يعبر الأزمنة ورسالة ثقافية ترفض الاندثار».
يبقى «بيت المقام العراقي» في كركوك أيقونة ثقافية تنبض بالحياة، ومعلماً يجسد تآلف التنوع بروح واحدة، تعزف لحن العراق بروح كركوكية خالدة.
شنو الداودي: صحفية من كركوك