«آخر معارك الجنرال» حين يروي الأدب الكوردي حقيقته بالعربية
«آخر معارك الجنرال» حين يروي الأدب الكوردي حقيقته بالعربية
August 15, 2025

في روايته «آخر معارك الجنرال»، الصادرة عن دار النهار في بيروت، يقدّم الكاتب والشاعر جان دوست عملاً أدبياً استثنائياً يمزج بين السيرة الذاتية والتأمل الوجودي والخيال التاريخي، حيث تتجسّد اللحظات الأخيرة في حياة الزعيم الكوردي الملّا مصطفى البارزاني، لا بوصفه شخصية تاريخية فقط، بل كإنسان يحمل ذاكرة شعب، ويختزن في جسده المتعب نضال أمة وهواجسها، وانكساراتها وأحلامها المؤجَّلة.

لكن هذه الرواية، بأهميتها الأدبية، تتجاوز النص. فصدورها باللغة العربية، ومن بيروت تحديداً، يحمل دلالات ثقافية وإنسانية عميقة تمسّ العلاقة بين العرب والكورد، وتؤشر إلى دور الأدب في كسر الحواجز النفسية والتاريخية، وفي بناء الجسور بين الشعوب، خارج الحسابات السياسية والمواقف المسبقة.

في أواخر عام 2024، زرتُ مدينة بارزان، تلك القرية الجبلية التي خرج منها رجالٌ لم ينكسروا رغم القسوة والجوع والمنافي. عبر الطرق الوعرة التي تشق الجبال، حيث الطبيعة مزيج من القسوة والجمال، رأيت كيف تتكوّن الشخصيات من التضاريس، وفهمت أكثر ما تعنيه الرواية حين تصف البارزاني بأنه «ورقة من شجرة البلوط الكبيرة التي لا تسقط كلّها مرة واحدة».

في متحف القائد مصطفى البارزاني، لم تكن المعروضات فقط ما يشدّك، بل الروايات الشفهية، والنبرة الحيّة التي ينقلها القيِّمون هناك، وكأنهم يتناقلون سرّاً عائلياً مقدّساً. لقد كان المكان شاهداً حياً على الوجع الكوردي والكرامة الكوردية، محفوظاً لا في الحجر وحده، بل في النَفَس الحيّ للذاكرة.

«آخر معارك الجنرال» تبدأ من لحظة موت، لكنها ليست نعياً، بل هي استعادة لزمن طويل من النضال، والخذلان، والحب، والأمل. الرواية لا تسرد سيرة مصطفى البارزاني كزعيم سياسي فقط، بل تقدّمه كجدّ، وعاشق، ومقاتل، وحالم، ومغدور، وطفل خائف ذات يوم في بارزان.

يستخدم جان دوست أسلوباً شاعرياً يتجاوز الخطاب السياسي، ويجعل من كل مشهد جزءاً من قصيدة طويلة تتداخل فيها الأزمنة: من ذكريات الشباب والانتفاضات إلى لحظات المرض والوهن والموت الصامت في غرفة مستشفى في واشنطن.

إن صدور الرواية بالعربية، ومن بيروت تحديداً، يجعلها جسراً ثقافياً وإنسانياً بين الشعبين. فالقضية الكوردية لطالما عُرضت على الرأي العام العربي من خلال وسائط سياسية أو إعلامية ربما جاءت مشوّهة. 

بيروت، بما لها من رمزية كعاصمة للكلمة الحرّة، تؤكد هنا مجدداً دورها كمختبر للمصالحات العميقة، لا السياسية فحسب، بل الثقافية والوجدانية.

في «آخر معارك الجنرال»، لا نجد فقط سيرة زعيم، بل خريطة ألم شرق أوسطيّ مكتوم. من لوزان وسايكس – بيكو إلى الخيانات الدولية، ومن قصائد الملّا الجزري إلى شجرة البلوط، ومن بندقية البرنو إلى حمامة تطير من نافذة المستشفى... كل شيء في الرواية يقول إننا نتشابه أكثر مما نظن.

هي رواية لا تتوسّل العطف، ولا تستعرض المظلومية، بل تُقدّم جمالاً إنسانياً، وشهادة أدبية سامية، يمكن أن تسقط جدران الجهل وسوء الفهم المتبادل، وتفتح أفقاً للحوار.

«آخر معارك الجنرال» معركة ضد النسيان. إنها مقاومة أدبية لطمس القضية، ومحاولة شجاعة لتثبيت معالم الذاكرة الكوردية في وجداننا العربي. حين يكتب جان دوست بالكوردي ويُترجم للعربية، فإنه لا يطلب الاعتراف، بل يقدّم صوتاً يليق بالإصغاء.

لقد سقطت ورقة أخرى من شجرة البلوط، كما قال البارزاني. لكن الشجرة لا تزال واقفة، تمدّ جذورها في الأرض، وتقول: نحن هنا. لا لنقاتل فقط، بل لنحكي أيضاً.


 زياد شبيب: محافظ بيروت وقاضي سابق ومدير دار النهار للنشر


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved