تقف طفلة في التاسعة من عمرها أمام كرسي في صالون نسائي، مستعدة لقص جزء من شعرها الطويل واللامع والتبرع به لصالح جمعية کوردية بدعم من منظمة بريطانية متخصصة في صناعة باروكات من الشعر الطبيعي، تُرسل لاحقاً إلى إقليم كوردستان.
إيليان جيفارا تدرك تماماً أن ما تقدمه ليس مجرد خصلات من الشعر، بل مساهمة إنسانية تمنح الأمل لمحاربي السرطان الذين فقدوا شعرهم بعد العلاج الكيميائي، وتشكل دعماً نفسياً بالغ الأثر في رحلتهم مع المرض، وسط ما يواجهونه من تحديات صحية واجتماعية.
لم يكن سهلاً لطفلة في هذا العمر أن تتخلى عن جزء من شعرها، الذي يُعدّ مصدر فخر وجمال للفتيات، لكن إيمانها بأنها تقدم عملاً إنسانياً نبيلاً منحها الشجاعة لاتخاذ هذه الخطوة الجريئة.
ما تقدم هو قصة فتاة أربيلية انتظرت فترة طويلة كي يطول شعرها فتهبه لمرضى بحاجة إليه. أما الفكرة فقد جاءت بعد تشجيع عمتها التي تعمل متطوعة في مستشفى «نانَكَلي» الخاص بمرضى السرطان في مدينة أربيل.
وتبدي إيليان سعادتها بعملها الخيري لمشروع باروكات للأطفال تحت عنوان «ويگز فور كيدز»، وتقول في حديث لمجلة «كوردستان بالعربي» إن «قراري بأن أهب شعري إلى المصابين بمرض السرطان الذين فقدوا شعر رؤوسهم نتيجة جرعات العلاج الكيمياوي، جاء بعد أن حدثتني عمتي عن معاناة هذه الفئة». وتابعت: «عائلتي وأقاربي لم يرفضوا فكرتي، بل قاموا بتشجيعي»، ودعت إلى «تعميم هذه الفكرة على الراغبين من أبناء المجتمع».
جهود ذاتية طورت المشروع
«ويگز فور كيدز»، أو (باروكات للأطفال) بالعربية، مشروع يتم العمل عليه منذ حوالي أربع سنوات بجهود ذاتية، لمساعدة المصابين بالسرطان ممن هم دون سن الـ18 عاماً. الفكرة بسيطة لكنها قوية: تجميع التبرعات من الشعر، وإرسالها إلى بريطانيا، ثم إعادة باروكات من شعر حقيقي إلى مرضى السرطان في كوردستان.
أسست الجمعية الدكتورة إيمان إبراهيم، طبيبة انتقلت للعيش في المملكة المتحدة عام 2022، وشعرت بمسؤولية تجاه المرضى في وطنها «الفكرة نشأت من خبرتي بعد العمل التطوعي لعقد من الزمن في مساعدة مرضى السرطان» تقول الدكتورة إبراهيم، وتضيف: «من النقوص والقصور التي رأيتها: افتقاد المرضى للثقة بالنفس بعد فقد شعرهم، وعدم وجود مركز يجمع الشعر ويتحول إلى باروكات حقيقية رغم الطلب الكبير».
تشرح الدكتورة إبراهيم: «شعرت أحياناً بالبعد عن المرضى، لكنني بقيت مرتبطة بالعمل الإنساني الفطري، الذي كان يوماً ما مصدر معنى لحياتي».
وحين كانت ما تزال طالبة طب، تطوعت الدكتورة إبراهيم في مستشفى السرطان الوحيد في أربيل، وأسهمت في مشاريع تعليمية وترفيهية ودعم نفسي
بعد انتشار العمل الإنساني، يتطوع الآن حوالي عشرة شباب من أجل الجمعية الخيرية. بعضهم يتولى تسليم الباروكات محلياً مجاناً، وآخرون يقيسون حجم الرأس ويوجهون تنسيق التبرعات في الصالونات. ويشكر الفريق شركة الشحن التي تنقل الشعر والتبرعات من دون مقابل إلى بريطانيا، وتعيد الباروكات إلى كوردستان، رغم صعوبة المهمة الملقاة على عاتقهم.
أما عائشة عمر، المشرفة على المشروع، وهي شابة كردية تحمل شهادة في اللغة الإنجليزية، فتعمل مع المرضى في مستشفى نانكلي بشكل تطوعي منذ ثماني سنوات، وتُعد قوة دافعة وراء الجمعية الخيرية. كما أنها تُدرّس في مدرسة صغيرة داخل المستشفى لدعم الأطفال الذين تم تشخيصهم بالسرطان والذين اضطروا للتوقف عن التعليم المنتظم بسبب الضعف والتأثيرات الجانبية للعلاج الكيميائي.
تقول عمر: «بعض الآباء يخبروننا بأن أطفالهم يتعرضون للتنمر أو يُنظر إليهم بعد فقدان شعرهم بنظرات شزرة»، إلى درجة أن «بعضهم يتوقف حتى عن الذهاب إلى المدرسة. سماع هذا يُحطم قلوبنا، لكننا سعداء وفخورون بأننا نستطيع الآن مساعدتهم».
طريق النجاح يمر بمراحل
وقد مرّ المشروع الخيري بمراحل: في البداية كانت الباروكات تُصنع من شعر أشخاص أجانب فقط. لكن بعد فترة بدأت التبرعات بالشعر محلياً من سكان محافظات إقليم كوردستان وإرساله إلى الشركة البريطانية لتحويله إلى باروكة،
وتتم عملية الحصول على الشعر من خلال صناديق تُوضع في مستشفى «نانكلي» يُدوَّن فيها تفاصيل الشعر كاملة من المتبرعين، منها الاسم واللون ووسائل التواصل، لإعداد شهادات شكر وتقدير للمتبرعين أو المتبرعات.
ويتعيّن على الشعر أن يتوافر فيه عدد من المعايير قبل تحويله إلى باروكة، منها ألا يقل طوله عن 17 سم، حتى وإن كان الشعر مصبوغاً عند قصه، لكن يفضل ألا يكون الشعر من الألوان غير المألوفة، وألا يكون قد مرّ على قص الشعر أكثر من خمس سنوات.
وتؤكد عائشة أن «الباروكات هي من الشعر الطبيعي، وليس التجاري، كما أن استخدامها لا يسبب أي أذى للرأس، ولا يسبب حساسية، ولا يترك روائح كريهة». وتابعت أنه «في البداية كانت الناس تراودهم الشكوك في الموضوع، لكن الحال قد تغيّر الآن، فنحن نتلقى استجابة واسعة من المتطوعين».
هدية ثمينة من دون مقابل
تقول صاحبة فكرة المشروع، الدكتورة إبراهيم إن «تكلفة الباروكة الواحدة ممكن أن تصل إلى نحو ألف دولار أميركي، لكن المؤسسة البريطانية توفرها من دون مقابل، ونحن نسلمها للأطفال عند طلبها دون مقابل». وتتابع إبراهيم «ما يميز الباروكات التي نقدمها هو ليس فقط أنها مصنوعة من شعر حقيقي تم التبرع به، بل يتم تصميمها خصيصاً لكل طفل. نحن نقوم بأخذ قياسات الرأس، ومن ثم يتم تفصيل الباروكات بناءً على طول الشعر ولونه من صورٍ كان قد تم التقاطها قبل أن يفقدوا شعرهم».
وقد بلغ عدد المستفيدين من المشروع حتى الآن نحو 70 مريضاً، أغلبهم أطفال ومراهقون، والأعداد في تزايد بالتزامن مع زيادة الإقبال على التبرع بالشعر، ما سهّل على المشروع عمله وجعل القائمين عليه أن يطمحوا إلى فتح مراكز في محافظات كوردستان كافة لاستلام الشعر من المتبرعين.
استعادة الثقة
هذا المشروع ليس مجرد قضية مظهر؛ إنه استعادة لشيء يسرقه العلاج الكيمياوي أحياناً وإعادة الثقة بالنفس والهوية للمرضى الذين يعانون من التغيرات التي تطرأ عليهم. تقول الدكتورة إبراهيم: «من المؤثر جداً حين نرى بعض المرضى بعد تعافيهم وهم يعيدون الباروكات إلينا ليستفيد منها آخرون. فضلاً عن قيام بعض المتعافين بالتبرع بشعرهم لآخرين مصابين، وفاءً لمشروعنا. إنها حلقة جميلة من العطاء. نؤكد لهم دائماً أنهم جميلون، وأن الباروكة مؤقتة إلى أن يتعافوا وينمو شعرهم مرة أخرى».
وتشير إلى الكثير من المواقف الإنسانية التي صادفت المشروع، منها أن «رجلاً لم يكن بإمكانه أن يتقبل رؤية زوجته، التي أُصيبت في بداية حياتهما الزوجية بالسرطان، بلا شعر، حتى وصل الحال بهما إلى حافة الطلاق». وأضافت أن «الوضع قد تغيّر بعد أن حصلت الزوجة على باروكة من مشروعنا، وهي حالياً قد تعافت وتعيش مع زوجها حياة سعيدة».
تقول الدكتورة إبراهيم إن «العديد من المصابين أطفال، وقد ابتعدوا عن أصدقائهم لأنهم لم يتحملوا نظراتهم نتيجة تغيّر ملامحهم، لكن بعد حصولهم على الباروكات ترجع إليهم الثقة ويعاودون الاختلاط بالمجتمع ثانية». وأضافت أن «ردود الفعل المختلفة في اللحظة التي تُوضع فيها الباروكة هي أكثر المواقف عاطفية، فبمجرد وضع الباروكة المصنوعة من شعر حقيقي على رؤوسهم، يرقص البعض فرحاً، بينما ينهار البعض الآخر من السعادة. إنه مثل استعادة هويتهم وصورتهم الذاتية».
بصفتها طبيبة، تؤمن إبراهيم بأن هذه البادرة - وإن بدت بسيطة للبعض - تُعين كثيراً الحالة النفسية للمريض. هناك أدلة متزايدة على أن عوامل مثل الأمل والتفاؤل تساعد المرضى على تجاوز العلاج وقد تؤثر إيجاباً في صحتهم العامة.
دعم من مؤسسة بريطانية
“Little Princess Trust” (وتعني باللغة العربية «ثقة الأميرة الصغيرة»)، مؤسسة بريطانية أُنشئت عام 2005، متخصصة في تقديم الشعر المستعار الطبيعي «الباروكة» مجاناً للأطفال والشباب، ممن فقدوا شعرهم نتيجة علاج السرطان أو غيره من الحالات. كما تموّل أبحاث سرطان الأطفال التي تهدف إلى إيجاد علاجات أكثر فعالية.
فيل برايس، المدير التنفيذي لمؤسسة «ثقة الأميرة الصغيرة» يقول في تصريح لمجلة «كوردستان بالعربي»: «يسعدنا جداً أن نقدم شعراً مستعاراً مجانياً للأطفال المصابين بالسرطان في إقليم كوردستان العراق»، مؤكداً أن عملهم «بدأ في كوردستان العراق مؤخراً، ولكن من دواعي سرورنا وفخرنا أن نساعد الشباب هناك».
المؤسسة البريطانية، حسب كلام المتحدث، «لديها، بالإضافة إلى إنجلترا حيث المقر الرئيسي، شراكات مع صالونات لمساعدة الأطفال المصابين بالسرطان في كل من أيرلندا والبرتغال والسويد وبلغاريا وسلوفاكيا».
وفيما يخص التفكير مستقبلاً بإنشاء مركز لصناعة الباروكات من الشعر الطبيعي في إقليم كوردستان وتحديداً في أربيل، يضيف قائلاً: «ليس لدينا حالياً أي خطط لبدء عقد الشعر المستعار في العراق، لكننا دائماً على استعداد لاستكشاف فرص جديدة بينما نواصل مهمتنا لمساعدة المزيد من الأطفال المصابين بالسرطان».
وأشادت الدكتورة إبراهيم بجهود هذه المؤسسة، لأنها تساعد المصابين من دون مقابل «وقد استجابت لنا بعد أن أرسلنا إليها بريداً إلكترونياً واحداً فقط، وقدمت خدماتها إلى الكثير من مرضى السرطان في كوردستان». وأربيل هي المكان الأول في كوردستان والعراق الذي تتعامل معه هذه المؤسسة وتصنع له الباروكات مجاناً.
«صحة» كوردستان ترحب بالمشروع ومستعدة للتعاون
وزارة الصحة في إقليم كوردستان سجلت عام 2023 حوالي 9 آلاف مريض مصاب بأنواع مختلفة من السرطانات، كما تقول الدكتورة چنار سنجاوي المسؤولة عن وحدة السيطرة على السرطان في الوزارة. أما عام 2024 فقد انخفض العدد بحوالي 300 مصاب، وعدد من المصابين المسجلين في إقليم كوردستان من سكنة محافظات خارج الإقليم.
وتقول سنجاوي وهي ترحب بالمشروع التطوعي لصنع باروكات الشعر الطبيعية: «سندعم المشروع بجميع الإمكانات المتوفرة وهو مشروع إنساني مهم».
وفي أيلول 2024، وضع رئيس حكومة إقليم كوردستان مسرور بارزاني، الحجر الأساس لأكبر مستشفى لعلاج السرطان في أربيل، والذي يبنى على مساحة 30 ألف متر مربع وبسعة 150 سريراً. وسيوفر الحكومة، بحسب بيانها الرسمي، أحدث التقنيات الطبية والعلاجات مثل العلاج الكيميائي والتصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني والتصوير المقطعي المحوسب والتصوير بالرنين المغناطيسي، بالإضافة إلى زراعة نخاع العظم والتصوير بكاميرا غاما، بالإضافة إلى العديد من العلاجات الأخرى التي ستتوفر على أعلى مستوى.
وبحسب أرقام وزارة الصحة يوجد في إقليم كردستان 86 مستشفى عاماً و31 مركزاً صحياً متخصصاً و1056 مركزاً صحياً، يقدم من خلالها جميع أنواع الخدمات لمواطني كوردستان واللاجئين والنازحين.
الجهود المحلية
ومن خطط فريق «ويگز فور كيدز» فتح مراكز لتصنيع باروكات الشعر الطبيعي محلياً في المستقبل، سواء في أربيل أو باقي محافظات إقليم كوردستان، إذا توفر الدعم من الجهات الحكومية أو المنظمات والجهات الخيرية، من أجل توفير الخدمات لمرضى السرطان. وتقول الدكتورة إبراهيم «هذا لن يسرع العملية فحسب، بل سيخلق وظائف جديدة، خاصة للنساء، في صناعة الباروكات يدوياً عبر عقد خيوط الشعر بعناية».
ومثل هذه المشاريع تحتاج إلى أجهزة لإدامة الشعر وتنظيفه وتحويله إلى باروكات، كما أنها ستُسهم في تشغيل العديد من الأيدي العاملة، لا سيما من النساء. وقد خصص المشروع صفحة لها على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» باسم wigs4kids.kri ووفر أرقام موبايل لتسهيل مهمة التواصل مع الناس.
هيمن بابان رحيم: صحفي عمل في العديد من المؤسسات الإعلامية المحلية والدولية