تُحضّر الشابة بيريفان لامتحاناتها الجامعية. تجد من حديقة ومتنزه سامي عبد الرحمن في أربيل، ملاذها الهادئ بعيداً عن صخب الحياة. بين أزهار النرجس واللافندر والأوركيد تفرش كتبها ودفاترها وتبدأ المذاكرة، فالغابات الخضراء داخل الحديقة تستقبلها بصدر رحب. والمكان يكاد يخلو من الضجيج، فلا يُسمع سوى زقزقة العصافير ووقع أقدامٍ خفيفة لقطط الحديقة التي تحاول بحذر وفضول الاقتراب من صندوق الطعام المركون قرب أغراض بيري على الأرض.
تقول بيري، 21 عاماً، لمجلة «كوردستان بالعربي»: أدرس اللغة الإنكليزية في جامعة صلاح الدين، تحوّلت هذه الحديقة إلى مكان مريح للدراسة أكثر من البيت. هنا لا يقاطعني أحد، وأستطيع المذاكرة لساعات طوال، كما أن الأشجار الخضراء والهواء النظيف، تساعد على تخفيف الضغط النفسي قبيل الامتحان، أكثر ما يعجبني أن الحديقة مجانية ونظيفة وهادئة، توفر مكاناً مناسباً للطلاب للتحضير لامتحاناتهم المدرسية والجامعية.
ولا تبدو مظاهر التعب على الشاب مصطفى من ديالى، رغم أنه يجري منذ أكثر من 30 دقيقة عبر المسار الرياضي المخصص للرياضيين داخل حديقة سامي عبد الرحمن. يقول لمجلة «كوردستان بالعربي»: أمارس الرياضة يومياً هنا، أحب الجري، هذا المسار داخل الحديقة يعكس اهتمام البلدية بتشجيع الشباب على ممارسة الرياضة، إنها مكان جميل يفسح المجال لجميع الرياضيين لممارسة مختلف أنواع الرياضات التي يفضلونها، مضيفاً: «حتى رياضة ركوب الخيل متوفرة هنا».
وحديقة سامي عبد الرحمن، بُنيت على مساحة 800 فدان، تقع غرب مدينة أربيل، لها بوابة رئيسية تواجه مبنى إقليم كوردستان، وتتوفر داخلها العديد من المرافق والأنشطة السياحية والمطاعم والأسواق الصغيرة والملاعب، ويزورها مئات المواطنين يومياً لممارسة الرياضة والاستمتاع بالطبيعة. بحسب وزارة البلديات والسياحة في أربيل.
لكنّها ليست الوحيدة في المدينة، بل هنالك العديد من الحدائق الخضراء، تشكل فسحة طبيعية تروي عطش العائلات للسكينة والجمال، منها حديقة «شاندر» التي تتربع في قلب مدينة أربيل، وتضم مروجاً وبحيرات ومطاعم ومقاهي، إضافة إلى التلفريك (القاطرات المعلقة). وخلال شهر أيار / مايو الماضي، احتضنت معرضاً للزهور ضم أكثر من 5 آلاف نوع من الأزهار والنباتات الخضراء.
ورغم أن الحديقة تحتوي على مقاعد خشبية ومقاهي صغيرة، إلا أن معظم العائلات تفضّل الجلوس على الأرض والتواصل المباشر مع الطبيعة. هنا تحديداً، عندما تفرش العائلات الغطاء على الحشيش وتشكّل حلقة دائرية تتجمع حول طبق واحد لا يمكن تغييره أو استبداله؛ إنه بالطبع طبق الدولمة. تقول الشابة شاهيناز، 35 عاماً، من مدينة كركوك لمجلة «كوردستان بالعربي»: اعتدنا على الاجتماع هنا في حديقة شاندر، نجلب أغراضنا معنا، نحضّر الدولمة من المساء، ونستمتع بتناولها بين أحضان الطبيعة.
وتجذب حدائق أربيل العائلات من وسط وجنوب العراق، التي تأتي للتمتع بأجواء صيفية معتدلة، حيث تنخفض درجات الحرارة في الحدائق عن المدن، فالأشجار والأزهار والمياه العذبة ترطّب الجو وتخفف من وطأة صيف البلاد الحار.
فعاليات متنوّعة
والحدائق في أربيل ليست مجرد مساحات خضراء للتنزه والاستمتاع، بل مرافق خدمية تحتضن العديد من الفعاليات الثقافية والفنية والشعبية، فبعد الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في فبراير 2023، اختارت مؤسسة بارزاني الخيرية حديقة شاندر مكاناً لاستلام تبرعات الأهالي المقرر إرسالها للمتضررين من الزلزال. ومن ساحات حديقة شاندر ينطلق مهرجان الرمّان كل عام، فتتزيّن الحديقة بحبات الرمّان والزبيب والمشمش والتمر والعسل الأصلي الذي يجلبه مزارعو حلبجة ومناطق أخرى.
وفي حديقة سامي عبد الرحمن، يُقام سنوياً مهرجان الأكل الكوردي، فتفترش السيدات الكورديات أرض الحديقة ليخبزن الخبز الكوردي، بينما يتجمع الزوار حولهن كلٌ بانتظار دوره للحصول على رغيف من الخبز الساخن. وفيها تُقام سنوياً المعارض الطبية والإعلامية والدعائية والشعبية. كما لا يمكن أن ننسى الأعراس الكوردية التي جرت العادة على إقامتها في الهواء الطلق، فكان لكل حديقة في أربيل ذكرى أو صورة التُقطت بداخلها لعروس كوردية ترتدي فستانها المزركش وتحتفل بتوديعها لحياة العزوبية.
ولا تقتصر الحدائق في أربيل على الكبيرة منها، بل أيضاً تتوزع الحدائق الصغيرة داخل الأحياء السكنية. هنا أيضاً تظهر أهميتها كمساحة آمنة لسكان الحي الواحد. ففي حي عنكاوه، مثلاً، تسكن الشابة الفرنسية كلوري ريموند، تزور حديقة متنزه عنكاوه يومياً، تقول لمجلة «كوردستان بالعربي»: أزور الحديقة لأستمتع بالطبيعة. أراقب كبار العمر وهم يتسامرون. أشعر أنني على تواصل مع المجتمع المحلي عندما أجلس فيها، أسمع أيضاً صوت سيارة المثلجات التي تبيع الآيس كريم وتنادي الأطفال لشرائها، أستمتع بمشاهدتهم وهم يتراكضون للحصول على المثلجات الباردة واللعب مع الحيوانات الأليفة.
اهتمام حكومي
وتشهد مدينة أربيل، اهتماماً متزايداً بتطوير المساحات الخضراء والحدائق العامة. حول ذلك يقول مدير حدائق أربيل ريبين أحمد لمجلة «كوردستان بالعربي»: يبلغ عدد الحدائق 211 حديقة ضمن حدود رئاسة بلدية أربيل، و26 حديقة كبيرة، تحتوي على مختلف أنواع الأزهار، كما ننتج سنوياً من 100 إلى 150 ألف نوع من الأزهار الدائمية والموسمية داخل مشاتلنا، وتتم زراعتها في حدائق المدينة وشوارعها. ومع بداية عمل الكابينة الحكومية التاسعة توقفنا عن استيراد الأزهار وأصبحنا ننتجها جميعها في مشاتلنا. كما تم افتتاح عدة حدائق خلال السنوات الماضية، ونسعى للافتتاح المزيد.
ويوضح أحمد، أن أهم الحدائق في مدينة أربيل هي: شاندر 1 و2 و3، وگلكند، والپيشمرگة، وسامي عبد الرحمن، تمثّل أرضاً حيويةً يجمع بين الجمال الطبيعي والخدمات المجتمعية، وأماكن استراحة للطبقة المتوسطة وملاذاً للطلاب والرياضيين. كما تعد هذه الحدائق عنصراً مهماً للتوازن البيئي في المدينة، إذ تساهم في تنقية الهواء، وتخلق بيئة صحية لتعزيز الترابط الاجتماعي عبر توافر أماكن مشتركة للقاء والتفاعل بين مختلف الفئات العمرية والاجتماعية.
وتعمل الجهات المعنية في بلدية وسياحة أربيل على رفع نسبة المساحات الخضراء في المدينة، بالاعتماد على جهود محلية، حيث يعمل أكثر من 2000 موظف بشكل مستمر في إدارة الحدائق في المحافظة، وظيفتهم هي تقليم الأشجار وزراعة الأزهار والنباتات وري الحشيش وقصه وتقليمه، إضافة إلى حملات التنظيف بشكل عام.
ويختم أحمد حديثه لـ«كوردستان بالعربي» بالقول: نتمنى من جميع الزوار تجنّب قطف الأزهار أو رمي الأوساخ خاصة البلاستيكية منها والحفاظ على نظافة الحدائق والمتنزهات العامة لأنها ملك للجميع.
ومنذ عام 2021، تدعم حكومة إقليم كوردستان مشروع زراعة مليون شجرة بلوط في أربيل على امتداد 5 سنوات، وذلك من خلال وزارة البلديات والسياحة، حيث تم زراعة 100 ألف شجرة نهاية عام 2024، ومازالت حملة التشجير مستمرة في جميع أنحاء المدينة.
سهى كامل: صحفية سورية مُقيمة في أربيل عاصمة إقليم كوردستان