في عالم يهيمن عليه السعي وراء المشاريع التقليدية، تنبثق قصة سارة جباري، 22 عاماً، كشعلة إبداع تستحق التأمل. الطالبة في إدارة الأعمال لم تكتفِ بالدراسة في أروقة الجامعة، بل نسجت من شغفها الطفولي الغريب عالماً ساحراً للفراشات، حيث تحلّق ألوانها الزاهية لتشكل لوحات فنية استثنائية تحمل رسالة عميقة: «الموت ليس نهاية الجمال»، فلسفة حوّلتها من حلم طفولي إلى مشروع ريادي يجمع بين العلم والفن والجمال.
وفي مقابلة صحفية لمجلة «كوردستان بالعربي»، تقول سارة: «كل صباح أستيقظ لأواجه تحدياً مزدوجاً: مقاعد الدراسة الجامعية من جهة، وعالم الفراشات المحنطة من جهة أخرى». مشروعها الذي أطلقت عليه «كيوبت باترفلاي» يهدف إلى إخلاد جمال الفراشات الحقيقية، في رحلة بدأت كهواية طفولة بريئة وتحولت إلى مصدر دخل يساعدها في تمويل دراستها.
من اكتشاف الطفولة إلى الحلم الريادي
«الفكرة كانت هواية طفولة، حيث اكتشفت ذلك من خلال الحدائق عندما كنت أجد الفراشة ميتة وكنت أحاول المحافظة عليها بطرق بدائية»، تحكي سارة بصوت يحمل حماساً واضحاً، وتضيف: «كنت أضعها على شريط لاصق أو بين طيات صفحات الكتب، ومع الوقت تطورت الهواية وبدأت أتعلمها بطريقة احترافية أكثر».
اللحظة الفاصلة في رحلة سارة جاءت قبل ثلاث سنوات، عندما عرضت عليها إحدى صديقاتها شراء مجموعة الفراشات المحنطة التي كانت تحتفظ بها. «هنا ألهمتني فكرة المشروع، فقلت في نفسي لماذا لا أحوّل الفكرة إلى مشروع؟». ومنذ تلك اللحظة، أنشأت صفحة باسم «كيوبت باترفلاي» لتخليد جمال الفراشات الحقيقية.
مشروع سارة ليس مجرد هواية تحولت إلى عمل، بل رسالة أخلاقية واضحة. «الفراشات كلها محنطة وفق شروط وضوابط أخلاقية، أي بعد إكمال دورة حياتها»، تؤكد سارة. «أستوردها بعد إكمال دورة حياتها وبعد ذلك تُحنط وتُصنع منها هذه الأعمال الفنية وتُباع على مواقع التواصل الاجتماعي».
الفراشات تصل إلى سارة من مزارع خاصة خارج العراق، أغلبها من الدول الأوروبية، حيث تكمل الفراشة دورة حياتها في بيئة مناسبة بعيدة عن الحشرات الأخرى. «هذه المحميات توفر بيئة مسالمة حتى تكمل دورة حياتها بطريقة صحية، لأن دورة حياة الفراشة تكون قصيرة من أسبوع إلى أقصى حد 3 أشهر»، تقول سارة وتشرح أكثر: «لذلك يحاولون إبقاءها بعيدة عن الحشرات الأخرى للمحافظة عليها من الانقراض بسبب التلوث البيئي الذي يحدث على الكرة الأرضية، فنرى كثيراً من الحيوانات والحشرات تنقرض».
تحديات الطريق وسوء الفهم المجتمعي
طريق الريادة لم يكن مفروشاً بالورود بالنسبة لسارة، فقد واجهت تحديات عديدة، أبرزها سوء الفهم المجتمعي لطبيعة مشروعها. «أغلب الناس اعتقدوا أن المشروع حرام وأنني أقتل الفراشات، وهذه كانت إحدى التحديات»، تقول سارة بنبرة تحمل مزيجاً من الأسف والتفهم. «ومن طرائف الموضوع أن الناس كانت تعتقد أنني أذهب للصيد، أي صيد الفراشات لقتلها وبيعها».
التحدي الآخر كان في الموازنة بين الحياة الأكاديمية والعملية، «كيف أوازن بين حياتي الدراسية وحياة العمل والحياة العائلية والتوافق بين الأصدقاء؟»، تتساءل سارة، «ففي أوقات الامتحانات وبالأخص الامتحانات الفصلية أضطر إلى إهمال المتجر لفترات طويلة، فأحاول وقت الدراسة التركيز على دراستي ووقت العمل أركز على عملي».
أما الدعم العائلي، فلم يأتِ بسهولة، ففي بداية المشروع «واجهت من أهلي وأصدقائي نوعاً من السخرية، لأنه كان مشروعاً رياديّاً ومختلفاً وجديداً»، تتذكر سارة. «وبعد ذلك اضطروا إلى مجاراتي ومسايرتي لأنني وضعتهم أمام الأمر الواقع».
منذ تخرجها من الصف السادس الثانوي، بدأت سارة العمل لتجميع رأس المال للبدء بهذه الفكرة، وعندما بدأت تحقق الاستقلال المادي، بدأ أهلها بمساعدتها والاقتناع بفكرتها. «مثلاً عندما يكون لدي طلبات أريد توصيلها وأنا أكون منهكة بسبب الدراسة، فإنهم يقومون بذلك عني» تقول بامتنان واضح.
فنّ التحنيط وأسرار المهنة
عملية التحنيط عند سارة ليست مجرد حرفة، بل فن يتطلب دقة ومعرفة عميقة بأنواع الفراشات المختلفة. «تحنيط الفراشات يعتمد على نوع الفراشة»، تشرح سارة تفاصيل عملها، وتضيف: «أستورد الفراشات من بلدان مختلفة، مثلاً لدينا فراشة المورفو التي تعتبر من الفراشات النادرة وتكون من غابات الأمازون، وأيضاً تكون مكلفة وغالية بسبب ندرتها ودورة حياتها القصيرة جداً التي تمتد لأسبوع واحد فقط».
فراشة المورفو تحتل مكانة خاصة في قلب سارة وفي مشروعها، فهي «من الفراشات الوحيدة المتميزة باللون الأزرق المخملي وحجمها كبير، لذلك تعتبر من أكثر الفراشات طلباً وهي من أكثر الفراشات مبيعاً». لكن جمالها الاستثنائي يأتي بثمن إضافي من الجهد: «عملية تحنيطها تكون متعبة حيث تستمر من يوم إلى 5 أيام، وأيضاً حسب نوع الفراشة، حيث تأخذ بعضها وقتاً قصيراً في التحنيط، وذلك لأن حجمها يتراوح بين الصغير والمتوسط».
عملية تحنيط الفراشات نفسها تتطلب صبراً ومهارة، «عندما أبدأ، تكون أجنحة الفراشة مغلقة، لذلك توضع في صندوق الترطيب فترة معينة على حسب نوع الفراشات، وبعدها تُفتح أجنحتها، وأعود مرة أخرى بجعلها تجف أو تصلبها»، تصف سارة العملية بتفصيل دقيق: «وبعدها توضع على شكل أعمال فنية على حسب رغبة الزبون أو حسب المواد المتوفرة من نباتات ومواد أخرى من إطارات وزجاجيات، وبعض الأوقات أواجه تحدياً لغياب الفكرة».
أما الفرق الأكبر في عملية التحنيط فيكون في الوقت الذي تحتاجه كل فراشة. بعض الفراشات الصغيرة والمتوسطة الحجم لا تحتاج أكثر من يوم واحد عندما توضع في صندوق الترطيب، بينما الأنواع الأخرى تحتاج وقتاً أكثر بكثير.
الآن، وبعد ثلاث سنوات من بداية مشروعها، تنظر سارة إلى المستقبل بعيون مليئة بالطموح، «فكرتي في المستقبل هي تطوير وتوسيع المشروع، ولكن ذلك بعد أن أنهي الدراسة، وبعد ذلك أتفرغ ليكون لدي مكان خاص لزيارة زبائني للمشروع».
قصة سارة جباري ليست مجرد حكاية نجاح شخصي، بل رسالة للشباب الطموح أن الإبداع لا حدود له، وأن الأحلام مهما بدت غريبة أو غير مألوفة، يمكن أن تتحول إلى واقع ملموس بالإصرار والعمل الجاد. في عالم يسعى فيه الجميع وراء المشاريع التقليدية، اختارت سارة أن تكون مختلفة، حاملة شعارها الذي يلخص فلسفتها في الحياة: «الموت ليس نهاية للجمال».
سوزان تَمَس: صحفية من قَرَقوش عملت في مجال الإعلام الحربي والصحافة