في الساعات المتأخرة من ليلة الخامس من أيار 2024، كانت أضواء سوق القيصرية التاريخي في أربيل قد انطفأت منذ ساعات، والمحلات التجارية أغلقت أبوابها بعد يوم عمل اعتيادي. لم يدرك أحد حينها أن هذه الليلة الهادئة ستتحول إلى كابوس حقيقي يهدد بمحو إرث تجاري وثقافي يمتد لعقود في قلب العاصمة الكوردية أربيل.
بدأت ألسنة اللهب تتصاعد من إحدى الزوايا، تنتشر بسرعة مرعبة من محل إلى آخر، تلتهم البضائع والذكريات التي تراكمت عبر السنين. صوت تكسر الزجاج وانهيار الأسقف المعدنية يمزق صمت الليل، بينما دخان كثيف يتصاعد نحو السماء، مُعلناً عن مأساة تتكشف في أحد أهم الأسواق التراثية المقابل لقلعة أربيل العريقة.
شهادات حية
«في الخامس من أيار عام 2024 تعرض سوق القيصرية لحريق ليلاً، وهرعت فرق الدفاع المدني إلى مكان الحادث»، يحكي ديدار يونس، أحد تجار السوق لمجلة «كوردستان بالعربي»، وهو يستذكر تفاصيل تلك الليلة المرعبة التي ما زالت محفورة في ذاكرته بوضوح، ويرى أن الحريق الهائل «كان بفعل فاعل».
الأرقام التي يسردها ديدار تكشف عن حجم الكارثة الحقيقي: 370 محلاً تجارياً التهمتها النيران بالكامل، وكلفت إعادة إعمارها أكثر من سبعة مليارات دينار عراقي. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات باردة، بل تحكي قصة مئات العائلات التي فقدت مصدر رزقها في ليلة واحدة، وأحلام تجار بُنيت على مدى سنوات طويلة تحولت إلى رماد في ساعات قليلة.
وسط هذا الدمار والفوضى، بدأت تتكشف قصة أخرى. مام خالد سليمان، صاحب محل لبيع مستلزمات التطريز والخياطة بالجملة في وسط السوق، يحكي بحرقة ممزوجة بالامتنان: «خسرت كل شيء في تلك الليلة، كان محلي يحتوي على كميات كبيرة من الأقمشة والخيوط ومستلزمات الخياطة التي جمعتها على مدى سنوات من العمل الدؤوب. رغم الخسارة الفادحة، إلا أن سرعة تدخل فرق الدفاع المدني منعت انتشار النيران إلى بقية أجزاء السوق».
استجابة سريعة
ما ميز هذه الحادثة عن غيرها من الكوارث، كما يؤكد ديدار، هو «سرعة استجابة فرق الدفاع المدني على أعلى المستويات واستخدامهم تقنيات حديثة كانت سبباً في السيطرة على الحريق ومنع انتشاره».
وبحسب شهادات التجار، فإن رئيس وزراء إقليم كوردستان وصل إلى موقع الحادث فور طلوع الشمس، «وأعطانا وعداً بتعويضنا وإعادة إعمار المحلات المتضررة». هذا الوعد لم يبق حبراً على ورق، بل ترجم إلى واقع ملموس حيث «تم تعويضنا من قبل رئيس الحكومة، وأعطت الحكومة تعويضات من مليونين إلى عشرين مليوناً حسب بضاعة كل محل متضرر».
منظومة متقدمة
هذا النجاح في السيطرة على الحريق لم يأتِ من لا شيء، وإنما نتيجة استثمار حكومي مدروس في تطوير قدرات الدفاع المدني. يوضح المقدم شاخوان سعيد، المتحدث باسم الدفاع المدني في أربيل، أن «الحكومة التاسعة قد أولت اهتماماً استثنائياً بالدفاع المدني»، مشيراً إلى الاستثمار الكبير في توفير معدات مكافحة الحرائق المتطورة و«إرسال الضباط والموظفين في دورات تدريبية خارج البلاد» لاستيعاب أحدث التقنيات والأساليب المتقدمة.
ويفخر سعيد بأن «الدفاع المدني في أربيل يعمل وفق تقنيات وأساليب تضاهي أو تتفوق فيها على معظم دول الشرق الأوسط»، مؤكداً أن «فرق الإطفاء في أربيل تُعد من أسرع الفرق في المنطقة»، وفقاً لمعايير دولية. هذا التطور انعكس على المعدات المستخدمة، حيث يوضح أنهم «يستخدمون نفس المعدات المطبقة في الدول المتقدمة والتي تعتمدها المطارات الدولية».
السيارات المتخصصة الألمانية الصنع تتميز بالوصول السريع و«تعمل بالكامل عبر التحكم عن بُعد، مما يمكنها من إطفاء الحرائق من دون تدخل مباشر من عناصر الإطفاء»، إلى جانب أنظمة إضاءة متطورة وإمكانية التحكم في ضغط وسرعة المياه.
تحديات ونتائج مُشجعة
الاستثمار في تطوير قدرات الدفاع المدني بدأ يؤتي ثماره. فقد كشف سعيد عن تسجيل 655 حالة حريق في الأشهر الستة الأولى من العام الحالي 2025 ضمن حدود أربيل، مقارنة بـ 1300 حالة في نفس الفترة من العام الماضي، ما يعكس انخفاضاً مُلفتاً بنسبة 50%.
ورغم هذا التحسن، تواجه فرق الدفاع المدني تحديات متنوعة. فحريق مصنع الزجاج الذي وقع في مايو الماضي يُعتبر أكبر حريق في حدود أربيل هذا العام، لكن الفرق نجحت في السيطرة عليه خلال 6 ساعات فقط. كما سُجلت 109 حالة احتراق سيارات، بعضها كان مقصوداً، وحريق مخيم النازحين الذي تمت السيطرة عليه بواسطة 20 فريقاً خلال ست ساعات بحسب سعيد.
وفي دهوك، يُسجل المقدم بيوار عبد العزيز، مسؤول إعلام الدفاع المدني، 510 حالات حريق متنوعة تم السيطرة عليها منذ بداية عام 2025، بالإضافة إلى إنقاذ ثلاث حالات غرق من أصل خمس حالات، و11 حالة إنقاذ من الحرائق داخل البنايات والسيارات.
تقنيات متطورة
التطلع نحو المستقبل يحمل المزيد من التطوير التقني. فقد كشف سعيد عن وصول سُلّم إطفاء حديث بارتفاع 100 متر يزن 60 طناً، تم شراء 3 قطع منه لمحافظات أربيل ودهوك والسليمانية. كما أعلن عن خطط شراء طائرة درون متطورة من الصين بتكلفة مليون دولار تقريباً، قادرة على حمل خرطوم ورفعه إلى المباني العالية، وكسر زجاج النوافذ، وإرسال تقارير فورية عن الحرائق أثناء دوريات المراقبة.
هذا التطوير المستمر يشمل أيضاً العنصر البشري، حيث تلقى 15 غواصاً دورة تدريبية متقدمة في فرنسا هذا العام، ونجحت الفرق في إنقاذ 20 شخصاً من الغرق أثناء السباحة، منهم 4 أطفال، بالإضافة إلى إنقاذ 5 أشخاص من الانتحار.
عودة الحياة
اليوم، وبعد مرور أكثر من عام على حادثة حريق سوق القيصرية، عاد السوق إلى الحياة من جديد. المحلات التجارية عادت لتستقبل زبائنها، والحياة التجارية استأنفت نشاطها، إنها قصة عن التدمير والبناء، عن الخسارة والتعويض، وعن البطولة اليومية لرجال الإنقاذ الذين يقفون على الخطوط الأمامية لحماية أرواح وممتلكات المواطنين. حادثة سوق القيصرية تبقى شاهداً على أهمية الجاهزية والاستعداد لمواجهة الطوارئ، وعلى أن الإرادة الإنسانية قادرة على التغلب على أقسى التحديات عندما تُدعم بالتخطيط السليم والاستثمار في القدرات والتقنيات المتطورة.
رياض الحمداني: صحفي ومؤلف عمل في العديد من المؤسسات الإعلامية