هي التي سرقت عشبة الخلود من گلگامش! وتبوأت مكانة محورية في التاريخ الرافديني، فكان حضورها واضحاً في ثنائية الحياة والموت، طرد الشر أو جلبه، المساعدة في علاج الأمراض، ما يتعلق بطقوس الخصب والنسل، الحماية والحكمة.. وهي الوصية على الباب المؤدي للعالم السفلي، والأهم من ذلك دورها الأسطوري في تشكيل المعتقدات الدينية الرافدينية.
إنها الأفاعي، التي تحظى بمكانة خاصة في التراث الكوردي، إذ تُعدّ رمزاً للعديد من المفاهيم والأساطير، أبرزها أسطورة «شاهماران»، ذلك الكائن الخرافي الذي يجمع بين جسد امرأة ورأس ثعبان، ويُنظر إليه على أنه ملكة الثعابين، التي غالباً ما تُصوَّر كرمز للحكمة والجمال والقوة الخفية. والتي صدر كتاب موسوعي عن أنواعها في كوردستان مؤخراً.
بداية المشروع
كان اهتمام الباحث سوران حمه علي أحمد، المتخصص في مجال الحياة البرية، بالأفاعي وتحذيره من عمليات القتل العشوائي التي تتعرض لها، وعثوره على نوع نادر منها في جبل بمو قرب دربنديخان، ونشره بحثاً عنه في موقع (iNaturalist) العالمي المتخصص بمجتمع علماء الطبيعة، مبعث انتباه العالم السلوفاكي دانيال جبلونسكي، الذي يحظى بشهرة عالمية في مجال الزواحف والبرمائيات، حيث اتصل به واتفقا على تشكيل فريق بحثي مشترك لإعداد كتاب عن أفاعي كوردستان.
وبالفعل تشكل الفريق، الذي تألف من دانيال جبلونسكي، الذي أسهم بدور رئيس في إعداد الكتاب، وسوران حمه علي أحمد، الذي قام بدور المنسق العام وإعداد المعلومات المتعلقة بالأفاعي وتوزيعها الجغرافي، ود. سامان عبد الرحمن أحمد، الخبير في مجال التنوع البيولوجي، للعمل على تحديد مأوى الأفاعي وبيئتها وأنواعها في المناطق المختلفة اعتماداً على المعلومات النباتية، وكورش آرارات الباحث في المجال البيئي، لإعداد المعلومات التاريخية والتراثية، وسوما إسماعيل مجيد، الباحثة في مجال الأحياء البرية، لتحديد الصفات المظهرية والرسومات الخاصة بها.
وقام الفريق بإعداد بحث متكامل عن التنوع النباتي والأحيائي في إقليم كوردستان، مع التركيز على الأفاعي، حيث أجرى جولات ميدانية متعددة، وعثر في أولها على نوع نادر جداً من الأفاعي بمنطقة جبل سكران في قضاء چومان بمحافظة أربيل، يعيش على ارتفاع 2600 متر عن سطح البحر، وهو الثعبان الكوردستاني (Kurdistan Viper)، «كوله كوێرەى كوردستاني»، الذي يُعرف بلسعته السامة، ونشر بحثاً بهذا الشأن في مجلة SAURIA الألمانية.
41 نوعاً.. 3 منها سامة فقط
يقول الباحث سوران أحمد، إن من يقتلون الأفاعي «يفعلون ذلك بدافع الخوف والجهل»، ويشير إلى أن ذلك «دفعنا لمحاولة توعية الناس بشأن الأفاعي من خلال تأليف كتاب شامل عنها باللغتين الكوردية والإنكليزية يتضمن معلومات تاريخية وثقافية وعلمية وجغرافية عن الأفاعي في إقليم كوردستان».
ويضيف أن الأفاعي الكوردستانية «تتكون من ثماني فصائل تُعدّ فصيلة Colubridae أغنى أنواعها»، ويبين أنه «تم تأكيد وجود 31 نوعاً رسمياً في إقليم كوردستان بينما ما يزال وجود عشرة أنواع إضافية محل شك».
ويوضح الباحث في مجال الحياة البرية أن البحوث العلمية «تؤكد وجود 40 نوعاً من الأفاعي في سوريا و29 إلى 30 في الأردن و28 في تركيا»، ويلفت إلى أن تنوع الزواحف في إقليم كوردستان «يحتاج إلى تقويمات إضافية عند توافر المزيد من البيانات بشأن وجود الأنواع وكثافتها».
ويؤكد سوران أحمد، على أن «ثلاثة أنواع فقط من أصل 41 بين الأفاعي في إقليم كوردستان سامة»، ويذكر أن «أول عمل علمي عن الأفاعي في العراق أنجز من قبل عالم الحشرات والطبيعة الفرنسي غيوم أنطوان أوليفييه (1756 - 1814) الذي كان من أوائل علماء الطبيعة الأوروبيين الذين غامروا باستكشاف أراضي بلاد فارس وسوريا وتركيا وما عرف لاحقاً باسم العراق بين عامي 1792 و1799 وجمع مجموعةً واسعةً من العينات خلال رحلاته هي محفوظة الآن في متحف التاريخ الطبيعي في باريس».
مزايا علاجية وصناعية
وبشأن سموم الأفاعي، يقول أحمد، إنها «تنقسم إلى أربعة أنواع؛ أولها يؤثر على الدم والثاني على الأعصاب والثالث على الأنسجة والرابع على الجسم عامة»، وينوه إلى أن تلك السموم «يمكن أن تستثمر لأغراض علاجية أو غيرها كما أن جلودها تعتبر من الخامات الثمينة، لاسيما في الصناعات الجلدية الفاخرة (ملابس، وأحذية، ومحافظ وأحزمة) وفي صناعة المجوهرات لما تمتاز به من مرونة وخفة وزن ونقوش طبيعية جميلة وفريدة، فضلاً عن الصناعات والحرف اليدوية كزخرفة الآلات الموسيقية وغيرها. لكن ذلك لا يبرر أبداً أن يكون دافعاً لصيدها بنحو جائر يهدد وجودها».
وعن كيفية التعامل مع الأفاعي وتميز السامة منها، يقول الباحث في مجال الحياة البرية، إن من الضروري «عدم لمسها أو محاولة الإمساك بها سواء كانت سامة أم لا مع ضرورة الحفاظ على مسافة آمنة ضماناً للسلامة وتجنب استفزازها، ثم الاتصال بالجهات المختصة للإمساك بها وإطلاقها بعيداً عن المناطق السكنية»، ويتابع أنه «لا توجد سمة مظهرية محددة للأفاعي يمكن من خلالها التمييز بين الأنواع السامة من غير السامة حيث تنتمي الأنواع الثلاثة السامة في كوردستان إلى عائلتين مختلفتين هما Viperidae والكوبرا Elapidae وأن أكثر الأنواع السامة والخطيرة شيوعاً هي الأفعى المقرنة الشامية المعروفة جيداً بين المجتمعات المحلية التي يتمكن الأهالي التعرف عليها بسهولة».
مقدمة وأربعة فصول
بدوره يقول الخبير البيئي د. سامان عبد الرحمن أحمد، إن الكتاب «يتألف من 352 صفحة من القطع المتوسط تضم مقدمة وأربعة فصول فضلاً عن قائمة بالمصادر والمراجع»، ويبين أن المقدمة «تتناول تاريخ الأفاعي في كوردستان والمناطق التي تعيش فيها ونبذة عن الباحثين الأجانب الذين درسوها والخرافات المتداولة بشأنها وكيفية التعامل معها».
ويذكر الدكتور أحمد أن الفصل الأول «يتناول أنواع الأفاعي في إقليم كوردستان وأصلها من مناطق جبال زاگروس وسهل بلاد الرافدين وحوض البحر الأبيض المتوسط»، ويلفت إلى أن الفصل «يوضح الأنواع المنتشرة في مناطق جبل زاگروس وسوران والأنواع الكوردية المتوطنة وتلك النادرة والمهددة بالانقراض».
ويوضح الخبير البيئي، أن أنواع الأفاعي السامة الثلاثة في كوردستان هي: Levant Viper و Kurdistan Viper و Black desert Cobra وينوه إلى أن المخاطر التي تواجه الأفاعي في كوردستان «تتمثل في قتلها من قبل الأهالي نتيجة الجهل وعدم الوعي بأهميتها الطبيعية والاتجار غير القانوني للاستفادة من سمومها وجلودها والتغيرات البيئية والمناخية وحرائق الغابات وتخريب المأوى».
ويضيف د. سامان أحمد، أن الفصل الثاني من الكتاب «يتضمن معلومات عن أسماء الأفاعي وأنواعها باللغتين الكوردية والإنكليزية والقائمة الحمراء للمنظمة العالمية لحماية البيئة (IUCN) بشأن الأنواع الثلاثة المهددة بالانقراض»، ويشير إلى أن الفصل الثالث «يتناول الصفات المظهرية لأنواع الأفاعي وكيفية تمييزها بحسب صفاتها من خلال الحجم والطول واللون والأنياب والقشور والذيل وشكل الرأس».
وتابع قائلاً إن الفصل الرابع من الكتاب «يتناول الأسماء العلمية والعامة للأفاعي وخطرها على الإنسان ومناطق تواجدها وندرتها ومأواها وتقويمها بحسب قوانين المنظمة العالمية لحماية البيئة، وطرق تكاثرها وتوزيعها الجغرافي وطبيعة أكلها وكيفية تناولها الطعام والصفات الأساسية لكل نوع والمخاطر التي تهدده»، ويلفت إلى أن الكتاب «صدر عن مؤسسة Chimaira الألمانية ذات الشهرة العالمية في مجال الكتب المتعلقة بالزواحف والبرمائيات، بمشاركة كل من جامعة السليمانية والجامعة الأمريكية في السليمانية ومنظمة طبيعة العراق ومؤسسة نباتات كوردستان وكلية العلوم الطبيعية في جامعة سلوفاكيا».
ضرورية للتوازن البيئي
ويواصل الخبير البيئي أن الكتاب «حدد حالة أنواع الثعابين في إقليم كوردستان ضمن أربع فئات... أولها فئة غير مُقيّم بواقع خمسة أنواع وناقصة البيانات بواقع نوعين وأقل قلقاً بواقع 34 نوعاً فضلاً عن نوعين آخرين بصفة قريبة من التهديد».
يُذكر أن قائمة الأنواع الحمراء للاتحاد الدولي لحماية الطبيعة، تصنّف الأنواع إلى تسع فئات استناداً إلى معايير محددة، تشمل معدل الانخفاض في الأعداد، وحجم الجماعة، ونطاق التوزيع الجغرافي، ومدى تجزؤ الجماعة والتوزيع.
ويخلص د. سامان عبد الرحمن أحمد، إلى أن الأفاعي «تشكل جزءاً مهماً من التنوع الأحيائي في إقليم كوردستان والمنطقة بشكل عام لدورها في حماية التوازن البيئي والبيولوجي فضلاً عن مزاياها العلاجية والصناعية»، مشدداً على أن الكتاب «رسالة توعية وتثقيف وطمأنة بشأن الأفاعي ومدى خطرها وكيفية التعامل معها».
باسل الخطيب: صحفي عراقي