في آب عام 2014، بينما كانت أشعة الشمس تلهب سماء سنجار التابع لمحافظة نينوى، والذي تبعد 120 كيلومتراً عن محافظة دهوك، اجتاح تنظيم داعش القضاء بعنف غير مسبوق محولاً حياة آلاف العائلات الإيزيدية من أمن وطمأنينة إلى كابوس مستمر. كانت سنجار آنذاك ملاذاً آمناً للعديد من العوائل التي تعيش حياة بسيطة بعيدة عن صخب الصراعات، إلا أن ساعات معدودة قلبت كل شيء رأساً على عقب، وكسرت سلام المدينة إلى أشلاء.
طفلة أيقظتها الإرهاب
سهام شاهين مچو طفلة في الثامنة من عمرها لم تعرف سوى اللعب والمرح مع إخوتها والجلوس إلى جانب والدتها في المطبخ، تستمع إلى حكايات جدتها في المساء. لكنها في ذلك اليوم تغيرت حياتها جذرياً.
تحكي سهام عن الصباح الذي بدأت فيه اللعبة والضحكات تتحول إلى رعب حين سمعوا دوي انفجار هز أرجاء الحي. هرع والدها ليخبر والدتها بسرعة الهروب؛ لأن داعش اقتربت من المنطقة، وارتفعت أصوات الصراخ والهلع، بينما العائلات تحاول الفرار إلى جبل سنجار الذي كان يعد الملجأ الوحيد.
ركضت سهام مع والدتها المريضة التي كانت تعاني من مرض السكري، وكانت بالكاد تستطيع المشي وسط صوت رصاص يملأ الهواء ورؤية سيارات التنظيم تخطف النساء بلا رحمة. لكن الهروب لم يدم طويلاً، إذ وقعوا في قبضة عناصر التنظيم الذين نقلوهم إلى مدرسة مهجورة في تلعفر، مبنى بلا ماء أو كهرباء مليء بالغبار والوحشة. هناك أجبروا على ارتداء الحجاب والصلاة، رغم أنهم لم يكونوا مسلمين، وهددوا بالعقاب في حال رفضوا الامتثال.
قضت سهام ووالدتها أسابيع في ظروف قاسية للغاية مع ندرة الطعام، وغالباً ما كانت قطعة خبز واحدة أو خيارة صغيرة هي كل ما يحصلون عليه، وأحياناً لا شيء إطلاقاً. كانت سهام تعطي حصتها القليلة لوالدتها المريضة التي كانت تصر على أن تأكل كي لا تضعف وتموت.
بعد فترة قصيرة نقلهما التنظيم إلى سجن بادوش حيث بدأ الجحيم الحقيقي. المكان كان مظلماً تملؤه رائحة العفن والوحشة مع جدران عالية وصراخ مستمر من الداخل. تُسحب الفتيات يومياً إلى أماكن مجهولة بالقوة، بعضهن تم بيعهن وأخريات انتحرن هرباً من المصير الذي ينتظرهن. تروي سهام كيف شاهدت فتاة صغيرة قطعت شرايين يدها في الحمام بعدما أبلغت بأن ثلاثة مسلحين اشتروها.
النجاة بفضل البيشمرگة
حاولت والدتها حماية سهام قدر المستطاع، حتى لجأت إلى حيلة وضع الرماد على وجهها وملابسها لتشويه مظهرها كي لا تلفت الانتباه، ونجحت هذه الحيلة مؤقتاً. فالمرض كان أقوى، وفقدت والدتها الحياة بعد أسابيع قليلة بين يديها الصغيرة. تقول سهام بحزن: «كنت أمسك يدها وأبكي وأصرخ، لكنها لم ترد، شعرت بأنني وحيدة تماماً في هذا العالم القاسي».
بعد وفاة والدتها نُقلت سهام إلى الموصل لتعيش خادمة في منزل لعائلة من داعش، ولم تكن قد تجاوزت التاسعة من عمرها، وقضت عامين في ظروف مأساوية تتلقى القسوة والصراخ من دون حق في اللعب أو الضحك، شاعرة بأن طفولتها قد سرقت.
لكن في لحظة حاسمة، وبينما كانت العائلة تنتقل من مكان إلى آخر، ساعدها أحد مقاتلي البيشمرگة على الهرب بخطة دقيقة ومحكمة. «حين خرجت من الموصل لم أصدق أنني تحررت، كنت في حالة صدمة أنظر إلى الناس، من دون أن أتكلم».
بعد نجاتها وحتى الآن تعيش سهام مع عائلتها في مخيم شاريا للنازحين في محافظة دهوك وهي أكملت دراستها الابتدائية والمتوسطة فيها. وفيما يخص رجوعها إلى مدينتها حاليا فهي لا تفضل العودة كون المدينة تعاني من عدم استقرار.
لكنها عادت إلى سنجار مؤقتاً لفترة قصيرة، وبدأت تتلمس خطواتها في استعادة حياتها، واستأنفت الدراسة وأكملت الصف الرابع ثم الخامس، وأصبحت من المتفوقات في مدرستها.
اليوم تحلم سهام بأن تصبح معلمة تروي للأجيال القادمة قصتها وقصص من عانوا مثلها، وتأمل في أن يساهم ذلك في منع تكرار هذه المآسي.
لكن قصة سهام ليست استثناءً، فهي واحدة من آلاف القصص الإيزيدية التي ما تزال حية في ذاكرة العراق. فيقول حسين كورو مدير مركز رزگار لتوثيق جرائم داعش إن سنجار ليست مجرد اسم مدينة بل رمز لترابط الإيزيديين مع جذور كوردستان؛ إذ أن أراضيهم سجلت منذ 2014 وحتى اليوم بلون الدم والدمار والخطف، وأن آلاف الإيزيديين ما زالوا بلا هوية يعانون تبعات تلك الكارثة.
رهاب العودة إلى سنجار
وحتى عام 2025 لا يزال هناك 3597 إيزيدياً في عداد المفقودين، في حين تم تحرير 2555 شخصاً فقط، وهذا الرقم لا يعكس حجم الكارثة التي ألمت بالمجتمع الايزيدي بأكمله. يؤكد خدر فخرالدين، 60 عاماً، أحد سكان المخيمات أن الكثير من الإيزيديين يعانون حالة رهاب عميقة وخوفاً من العودة؛ بسبب ما عانوه من داعش فضلاً عن أن غياب الأمن والخدمات وعدم وجود حلول حقيقية يجعل العودة إلى سنجار مستحيلة حالياً.
من جانبه يقدم الدكتور ديندار زيباري منسق التوصيات الدولية في حكومة إقليم كوردستان أرقاماً تفصيلية عن حجم المأساة حيث يقدر عدد الكورد الإيزيديين الذين نزحوا بسبب داعش بمئات الآلاف منهم حوالي 290 ألفاً لا يزالون في إقليم كردستان بينهم 120 ألفاً داخل المخيمات و170 ألفاً خارجها. وأوضح أن 6417 شخصاً أُنْقِذُوا من قبضة داعش، 3590 منهم أطلق سراحهم وأكثر من 1100 امرأة أرسلوا للعلاج في ألمانيا، بينما يستفيد 3570 ناجياً من برنامج حكومي شهري للرعاية وإعادة التأهيل.
5 أعوام واتفاقية سنجار لم تطبق
كما أعلنت حكومة الإقليم عن رقمنة أكثر من 42 ألف ملف توثيقي حول جرائم داعش بما يعادل 408 آلاف صفحة، وجمع أكثر من 57 غيغابايت من الأدلة عبر فريق «يونيتاد» التابع للأمم المتحدة في خطوة مهمة نحو تحقيق العدالة.
وحسب د. ديندار زيباري، فإن قوات البيشمرگة قدمت تضحيات جسام خلال عمليات التحرير، إذ استشهد 1814 من أفرادها، وأصيب 10725 آخرون بينما لا يزال 44 جندياً في عداد المفقودين. فيما تطالب حكومة إقليم كوردستان بتطبيق اتفاقية سنجار، التي أبرمت في عام 2020 بينها وبين الحكومة الاتحادية من أجل استقرار سنجار وإعادة المياه إلى مجاريها وتطبيق القانون وإعادة النازحين.
وفي الذكرى السنوية لإبادة الإيزيديين وفاجعة سنجار، أصدرت حكومة إقليم كوردستان يوم الثالث من آب 2025 بياناً أكد فيه على ضرورة اضطلاع الحكومة الاتحادية بمسؤولياتها الكاملة في تعويض الإيزيديين تعويضاً عادلاً ومنصفاً، ودعم النازحين، وتمهيد السبيل لعودتهم الكريمة واللائقة إلى مناطقهم.
وورد في البيان «لن يتحقق ذلك حتماً إلّا عبر التنفيذ الشامل لاتفاقية سنجار، بما يضمن إنهاء المظاهر المسلحة، وإخراج جميع الميليشيات والمجاميع غير الشرعية، وبسط الأمن والاستقرار في المنطقة. ومن المؤسف أن تجاهل تنفيذ الاتفاقية، واستمرار الوضع غير الطبيعي المفروض على المنطقة قد أدّى إلى تعطيل عملية إعادة الإعمار، وحال دون تأمين الخدمات الضرورية التي يستحقها أهالي المدينة».
وتختتم سهام حديثها بحزم مؤثر قائلة: «نعم نحن نجونا وسنعيش لنروي ما حدث. لن ننسى، لكننا لن نكسر».
هذه الكلمات تختزل صمود شعب بأكمله، وتعبر عن أمل لا يموت في مستقبل أفضل يحمل بين طياته السلام والكرامة والعودة إلى سنجار، التي تنتظر من يحميها ويعيدها إلى الحياة.
سجى إسماعيل: صحفية كوردية