صمت ينبض بالحياة في كركوك
صمت ينبض بالحياة في كركوك
September 25, 2025

بينما كنت أغادر المقهى وأترك خلفي عالماً ينبض بالحياة بصمت، لم تكن القصص التي سمعتها مجرد معلومات أدوّنها في تقريري، بل رسالة حيّة تثبت أن الإنسانية قادرة على خلق لغات تتجاوز الكلمات. في قلب كركوك، وتحديداً في سوق شارع المحاكم، يوجد مقهى فريد من نوعه كشاهد على هذه الحقيقة. إنه مقهى الصم والبكم، الذي يُعد أحد الأماكن الاجتماعية المهمة التي ارتبطت منذ سنوات بشريحة ذوي الاحتياجات الخاصة من فئة الصم والبكم.

ما يميز هذا المقهى أكثر أنه يُدار بالكامل من قبل شخص أصم وأبكم، الأمر الذي يضفي طابعاً إنسانياً مميزاً، كما أنه يُعد ملاذاً آمناً ومركزاً للتواصل لهذه الشريحة المهمة من المجتمع. هنا، تتحول لغة الإشارة إلى وسيلة أساسية للتعبير والتفاعل، وتصبح جسراً يربط بين أفراد من مختلف القوميات والأديان والمحافظات.

الصور: علي جاسم قاسم 

 

من «قره جاي» إلى شارع المحاكم

يروي علي حسين في حديثه لمجلة «كوردستان بالعربي» قصة تأسيس المقهى، الذي أصبح لاحقاً ملتقى للصم والبكم في كركوك. تعلم علي لغة الإشارة من أبناء عمه وخاله، قبل أن يرتبط اسمه بالمكان الذي أسسه حسين علي أحمد، مؤسس جمعية الصم والبكم في المدينة وصاحب المقهى. بدأت الحكاية عام 1990 في منطقة «قره جاي»، حيث كان يديره السيد داود، وهو موظف في شركة نفط الشمال. بعد وفاة السيد داود، انتقل المقهى إلى موقع جديد قرب «حمام الساعة»، إلى أن استقر بعد عام2005  في شارع المحاكم القديم تحت إدارة حسين، محافظاً على دوره كمكان يجمع أبناء هذه الشريحة ويمنحهم مساحة للتواصل.

يقول علي: «كان حسين يجمعهم تحت سقف واحد، يهتم بأدق تفاصيلهم ويعالج مشاكلهم كما كان يفعل السيد داود رحمه الله».

في هذا المقهى، تكمن أهمية لغة الإشارة في كونها وسيلة أساسية لا غنى عنها، فهي تسمح للأفراد بالتعبير عن حاجاتهم ومشاركة أفكارهم، مما يساهم في دمجهم بفعالية في المجتمع. ويؤكد الباحث الاجتماعي، الدكتور عبد الكريم خليفة، على هذا الدور قائلاً: «اعتماد رواد المقهى على لغة الإشارة يخلق بيئة من الفهم المتبادل والراحة النفسية، ويتجاوز تحديات التواصل في الأماكن العامة». ويضيف قائلاً إن المقهى أصبح نقطة التقاء لأفراد يتشاركون تجارب حياتية متقاربة، مما يبني لديهم هوية جماعية مستقلة ويعزز ثقتهم بأنفسهم. كما أنه «يغير نظرة المجتمع نحو الصم، من الشفقة إلى الاحترام والتمكين، ويحتفي بالاختلاف».

لغة حوار ومقاومة يومية

قد يرى البعض في الصمت حاجزاً، لكن رواد هذا المقهى يثبتون العكس تماماً. فالتواصل هنا لا يعتمد على الكلمات المنطوقة، بل يتحول إلى حوار بصري نابض بالمعاني والمشاعر. يوضح محمد خضر، رئيس اتحاد أدباء كركوك، أن التكنولوجيا الحديثة أصبحت جزءاً من هذا الحوار، قائلاً: «لم يكن النطق عائقاً لهم أبداً، فهم يستخدمون هواتفهم للتواصل المرئي، ولديهم مجموعات نشطة على واتساب وفيسبوك يتبادلون من خلالها مقاطع فيديوهاتهم الخاصة وينسقون لقاءاتهم».

ويضيف خضر: «منهم من يتابع الرياضة والفن، كما يوجد بينهم كاتب يُدعى حسين البياتي، وهو من الوجوه البارزة في هذا الوسط، إلى جانب كونه نجّاراً ماهراً». هذا الشعور بالانتماء هو ما يخلق بيئة أسرية دافئة، ويجذب الزوار حتى من خارج كركوك.

من بين رواد المقهى، يبرز كل من ساري وهُناوي، اللذين قدما خصيصاً من الموصل. وعبرا عن سعادتهما قائلَين (بلغة الإشارة) إننا «نشعر بالانتماء هنا، ولهذا نأتي كل أسبوع أو حسب الفعاليات للقاء أصدقائنا. نحن سعداء لأنكم توثقون تفاصيل حياتنا، ففي الموصل للأسف لا أحد يهتم بذلك. أنتظر صدور هذا التقرير بفارغ الصبر».

أما خالد محمد، أحد منتسبي وزارة الداخلية في كركوك، فقد شدد على أهمية توفير المزيد من الرعاية والاهتمام بهذه الشريحة، مشيراً إلى أنه أب لطفلين من ذوي الإعاقة، ويقصد المقهى من حين لآخر للتخفيف عن نفسه ولقاء أصدقائه.

داخل المقهى، تتجسد قصص الكفاح والأمل. خير الله خضر رمضان، الذي يتولى تقديم الشاي والقهوة والحامض للضيوف، يروي لنا قصته عبر لغة الإشارة التي يترجمها لنا علي حسين: «أعمل هنا منذ فترة طويلة، هذا المكان هو مصدر رزقي الوحيد، فلا أملك راتب رعاية أو وظيفة أخرى أعتمد عليها».

هذه المعاناة يؤكدها عصام، صاحب البناية التي تضم المقهى، الذي يشير إلى غياب الدعم الحكومي، قائلاً: «جاء أكثر من مسؤول إلى هنا، سجلوا أسماءهم والتقطوا الصور معهم، لكن للأسف، لا شيء تغير. يأتون لأغراض الدعاية الانتخابية ثم ينسونهم». ويضيف مناشداً: «أتمنى أن يلتفتوا إليهم بصدق، فهم أصحاب عوائل وأغلبهم بلا أي مصدر دخل ثابت».

رغم هذه التحديات، تبقى روح المقهى عالية بفضل مؤسسه حسين أبو علي، الذي يتحدث بابتسامة كبيرة عن أهمية هذا الملتقى الذي يجمع أناساً من مختلف المكونات والأديان، يقول: «يأتينا أصدقاء من أربيل والسليمانية والموصل وديالى وبغداد وتكريت والبصرة. نتجمع هنا، خاصة في شهر رمضان، حيث نقيم فعاليات مثل المحيبس والصينية والدومينو» ويضيف: «تواصلنا لا يقتصر على ذلك، بل نتبادل الزيارات ونتخذ من المقاهي ملتقى لنا».

مساهمات نسوية للمقهى

هذا الدور المجتمعي يمتد إلى ما هو أبعد من المقهى. حبسة خان، التي ساهمت في تأسيس جمعية الصم والبكم، تتحدث عن جهود دعمها للنساء بشكل خاص: «نعمل على توفير المساعدات لهن، ونتجمع في مقر الجمعية بشكل دوري لمساعدتهن في تطوير مهاراتهن. ورغم أن الجمعية مسجلة في بغداد، إلا أن المساعدات تأتينا من إقليم كوردستان، لا نرى أي مساهمات تُذكر من بغداد أو كركوك للأسف».

ويختتم الباحث الاجتماعي الدكتور عبد الكريم خليفة مُلخصاً لأبرز التحديات التي تواجه مجتمع الصم والبكم، وبناءً عليها يقدم بعض التوصيات العملية لمعالجتها، موجهاً نداءه إلى الجهات المعنية خصوصاً الحكومة والجهات التشريعية ومن هذه التوصيات:

- سن قوانين داعمة: إصدار تشريعات تضمن حقوق الصم في العمل والتعليم والرعاية الصحية من دون تمييز.

- إلزامية الترجمة: فرض توفير خدمات الترجمة بلغة الإشارة في جميع المؤسسات الحكومية والمرافق العامة.

- دمج لغة الإشارة في التعليم: تدريس لغة الإشارة كمادة أساسية في المدارس وتأهيل معلمين متخصصين.

- توفير فرص عمل: إطلاق برامج تدريب مهني وتخصيص نسبة من الوظائف في القطاعين العام والخاص لهذه الفئة.

ورغم كل شيء، يظل كازينو الصم والبكم في كركوك فضاءً حياً لصناعة المعنى، حيث تُنطق الحياة بلغة مختلفة، لكنها أكثر صدقاً من الكلمات.


شنو الداودي: صحفية من كركوك



X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved