أطلق رئيس حكومة إقليم كوردستان مسرور بارزاني، في 30 تشرين الأول 2025، مشروع «الحزام الأخضر» الاستراتيجي حول أربيل بغرس الشجرة الأولى، واصفاً اليوم بـ«التاريخي للأجيال الحالية والمقبلة».
وقال بارزاني: «إعادة الإعمار تتم بهدوء وثبات لا بالضجيج، فالمطر هو ما ينمي الأزهار وليس الرعد»، مؤكداً أن المشروع سيشكل «رئة حقيقية» لأربيل ويحسّن المناخ ويوفر هواء أنظف.
وأشار إلى شراكة دولية مع خبراء يونانيين لإعادة زراعة شجرة الزيتون ذات الأصل التاريخي بالمنطقة، مع مشاركة القطاع الخاص في الاستثمار التجاري وخلق فرص عمل واسعة للشباب.
وأكد أن المشروع جزء من خطة تنويع الاقتصاد وعدم الاعتماد الكلي على النفط، داعياً المجتمع الدولي لدعم معالجة التغير المناخي والتصحر في المنطقة لتجنب موجات الهجرة وتبعاتها.
وشهدت مدينة أربيل عاصمة إقليم كوردستان خطوات مهمة تهدف تحسین الوضع البيئي من خلال تنفيذ مشاريع استراتيجية مستدامة، في زاوية هادئة من منطقة فرمانبَران جنوب غرب أربيل، يجلس شيرزاد علي تحت ظلال شجرة الرمان في حديقة منزله، يتأمل صمتاً لم يعهده منذ سنوات طويلة. لكن هذا الصمت ليس مجرد غياب للضوضاء، إنه شاهد صامت على تحولٍ جذري غيّر وجه البيئة في إقليم كوردستان.
«خمسون متراً فقط كانت تفصلنا عن الجحيم»، يقول شيرزاد الأربعيني وهو يشير نحو المكان الذي كان يحتله المولد الأهلي. تلك المسافة القصيرة حملت في طياتها قصة معاناة طويلة مع التلوث البيئي والضوضائي الذي حوّل حياة عائلته إلى سجن يومي.
«لم نكن نعيش في منزلنا، بل كنا سجناء فيه»، يسترجع شيرزاد ذكرياته المؤلمة. الحديقة التي زرعها بيده وكانت مفخرته تحولت إلى مكان مهجور، بينما اخترق صوت المولد جدران المنزل من الصباح الباكر حتى ساعات متأخرة من الليل.
المعاناة لم تتوقف عند الضجيج. الدخان الأسود الكثيف تسلل إلى كل زاوية في حياتهم، مجبراً العائلة على إغلاق النوافذ بإحكام حتى في أشد أيام الصيف حراً. «كانت معادلة صعبة لا حل لها: الاختناق في الداخل أو الاختناق بدخان المولدة في الخارج»، يوضح شيرزاد.
تفاصيل يومية صغيرة تحولت إلى تحديات كبيرة: زوجة شيرزاد لم تعد قادرة على نشر الغسيل تحت أشعة الشمس، فالملابس البيضاء النظيفة تتحول إلى رمادية قاتمة خلال ساعات من تعرضها لدخان المولدة.
صحة مهددة
الأمر الأكثر إيلاماً كان تأثير التلوث على صحة أفراد الأسرة، خاصة زوجة شيرزاد التي تعاني من حساسية في الجهاز التنفسي. «كانت تستيقظ كل صباح وهي تسعل، تتنفس بصعوبة، عيناها دامعتان من الدخان»، يحكي بألم واضح.
أصبحت زيارة أطباء الجهاز التنفسي روتيناً أسبوعياً، والأدوية والبخاخات الطبية جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية. «الأطباء كانوا ينصحونها بتجنب التلوث والعيش في بيئة نظيفة، لكن كيف تتجنبين التلوث وأنتِ محاطة به في منزلك؟»، يتساءل شيرزاد بمرارة.
نقطة التحول
جاءت اللحظة المفصلية عندما أُدرجت منطقة فرمانبران ضمن مشروع «رووناكي» الطموح لتحسين شبكة التوزيع الكهربائي في إقليم كوردستان. «في البداية، لم نصدق الخبر»، يقول شيرزاد بابتسامة عريضة. «بعد سنوات من المعاناة، بدا الأمر وكأنه حلم بعيد المنال».
ويؤكد الدكتور صنعان عبد الله، مدير دائرة التوعية البيئية والإعلام في هيئة البيئة بكوردستان، أهمية هذا المشروع: «يعتبر من المشاريع الاستراتيجية التي تؤثر إيجابياً على تحسين جودة الهواء، حيث انطفأ تقريباً 50% من المولدات، مما قلل انبعاثات الغازات الضارة بنسبة 50%».
ويكشف الدكتور عبد الله عن استراتيجية شاملة تتبناها هيئة البيئة لمواجهة تحديات التغيّر المناخي، موضحاً أن الهيئة تعمل وفق خطتين أساسيتين: «لدينا خطة التكيّف المحلي المعتمدة رسمياً من حكومة إقليم كوردستان والحكومة الفيدرالية منذ عامين، وخطة التقليل التي لا تزال في مرحلة المسودة».
ويشدد على أهمية هذه الاستراتيجية في «استخدام التقنيات الحديثة واستيراد المواد الصديقة للبيئة لتقليل الانبعاثات الضارة في قطاعات الصناعة والتجارة والكهرباء والثروات الطبيعية والنقل والزراعة».
الحزام الأخضر
يبرز مشروع الحزام الأخضر حول مدينة أربيل كأحد أهم المبادرات البيئية الاستراتيجية. المشروع الذي سيقام على شكل حزام دائري خارج شارع الـ150 متراً، سيشهد زراعة سبعة ملايين شجرة زيتون وفستق، مع إنشاء عشرة أحواض لخزن المياه.
يصف الدكتور عبد الله المشروع بأنه «استراتيجي لإقليم كوردستان، خاصة لمدينة أربيل، يهدف إلى انخفاض انبعاثات الغازات الضارة». ويتوقع أن يخفض المشروع معدل انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون بما لا يقل عن 140 ألف طن وبحد أقصى 210 ألف طن.
وتشمل الفوائد المتعددة للمشروع زيادة المساحات الخضراء، وتنقية الهواء في مدينة أربيل، وخفض معدلات درجات الحرارة، ومكافحة التصحر، وتحسين الصحة العامة وجودة الحياة، وتوفير فرص العمل، وزيادة الإنتاج الزراعي المحلي.
وفي سياق المشاريع الكبرى الجاري تنفيذها، هناك خمسة متنزهات كبيرة قيد الإنجاز حالياً. كما بلغت الرقعة الخضراء في المدينة 26 متنزهاً كبيراً و204 حدائق صغيرة و209 بساتين وغابات و163 جزرة وسطية و109 نافورات مائية.
وتتصدر كوردستان المشهد البيئي في العراق بامتلاكها 44 موقعاً محمياً من أصل 80 إلى 88 موقعاً في العراق كله. يؤكد الدكتور عبد الله أن «وجود هذه المواقع المحمية له إضافة إيجابية للتنوع البيولوجي في العراق، سواء كانت غابات صناعية أو طبيعية».
لكنه يحذر من التهديدات المحدقة: «حرق الغابات والتغيّر المناخي يؤثران سلبياً على هذه الكائنات الحية، حيث إن بعض الأصناف إما تهاجر أو تموت بسبب هذين العاملين».
وتعمل هيئة البيئة وفق إطار قانوني صارم يشمل قانون هيئة حماية البيئة وتعليمات رقم (1/2024) بخصوص الموافقة البيئية والمعايير البيئية للمشاريع. كما تطبق تعليمات رقم (2) التي تفرض غرامات مالية على مخالفي المعايير البيئية، وتعليمات رقم (2/2022) بخصوص جودة الهواء.
ويؤكد المسؤول البيئي على أهمية الحفاظ على المياه الجوفية للأجيال القادمة، موضحاً أن مشاريع المياه الجديدة «ستؤدي إلى تقليل استخدام المياه الجوفية وزيادة جودة المياه التي توزع على المواطنين». ويحذر من أن «استخدام المياه الجوفية بالنهاية يؤدي إلى الجفاف وعدم وجود أي عنصر بشري في هذه المناطق».
التغيير الملموس
بعد أكثر من ثلاثة أشهر من توقف المولدات، بدأت معالم التغيير تظهر بوضوح. «الصمت الذي عاد إلى حياتنا كان أجمل موسيقى سمعناها»، يقول شيرزاد وعيناه تلمعان بالفرح. لأول مرة منذ سنوات، استطاعت العائلة فتح النوافذ والاستمتاع بنسمات الهواء العليل.
والتحسن الأكبر ظهر في الحالة الصحية لزوجته، «اختفت أعراض الحساسية التنفسية تدريجياً، ولم تعد زيارات أطباء الجهاز التنفسي ضرورية، والبخاخات الطبية لم تعد جزءاً من الروتين اليومي»، وهي الآن «تتنفس بحرية وراحة، وابتسامتها عادت لتزين وجهها»، يضيف شيرزاد حالتها.
أما حديقة المنزل المهجورة، فعادت لتصبح واحة خضراء نابضة بالحياة. والنباتات التي كانت تذبل من التلوث عادت للنمو بقوة، والورود تفتحت بألوان زاهية، والأطفال عادوا للعب من دون خوف أو قلق.
ويختتم شيرزاد حديثه بخلاصة عميقة: «هذه التجربة علمتني أن البيئة النظيفة ليست ترفاً، بل ضرورة حياتية أساسية. مشروع رووناكي لم يحسن فقط من جودة الكهرباء، بل أعاد إلينا الحق في العيش في بيئة صحية ونظيفة».
هذه ليست مجرد قصة نجاح لمشروع تنموي، بل شهادة حية على أن التغيير الإيجابي ممكن، وأن البيئة النظيفة ليست حلماً بعيد المنال، بل واقعاً يمكن تحقيقه بالإرادة والعمل الجاد. إنها قصة تحول حقيقية من جحيم المولدات إلى واحة خضراء تنبض بالحياة والأمل.