باريس تخلّد «الپيشمرگة» في قلبها
باريس تخلّد «الپيشمرگة» في قلبها
November 13, 2025

في حديقة «أندريه سيتروان» بقلب العاصمة الفرنسية النابض، حيث تمتزج روعة الطبيعة بهندسة العمارة الحديثة، لم يكن المشهد المعتاد للسياح والسكان المحليين يختزل جمال المكان فحسب، بل احتضن لحظة تاريخية نادرة. تحت سماء باريس الصافية، وقف الرئيس مسعود بارزاني، محاطاً بصفوة من الدبلوماسيين والمسؤولين الفرنسيين والكورد، ليشارك في تدشين لوحة تحمل اسماً أصبح جزءاً من نسيج هذه المدينة الخالدة: «ممر الپيشمرگة». هذا الاسم، الذي طالما ارتبط بتاريخ ونضال شعب استلب منه حق الوجود على أرضه كوردستان وقدم تضحيات من أجل المبادئ الإنسانية 

لم يكن الحفل مجرد افتتاح لممر، بل كان تتويجاً لمسيرة ممتدة تاريخياً ومليئة بالعطاء والتضحيات، كان احتفاءً بشعب وجد في قوات الپيشمرگة درعه الواقي وروحه المقاومة، وتخليداً من العالم الحر لفضائل الشجاعة والشهادة. في هذه البقعة من أوروبا، حيث دارت أحداث تاريخية غيرت مسار البشرية، وقف الجميع ليحيوا قوة أخرى ساهمت في حماية الإنسان والحضارة من براثن الظلام.

شراكة تاريخية تتجدد في باريس

استهل الرئيس بارزاني كلمته بالإشادة بعمق العلاقات الكوردية - الفرنسية، مؤكداً أن «فرنسا على امتداد التاريخ كان لها مواقف إنسانية وصادقة تجاه شعب كوردستان». هذه الكلمات لم تكن مجرد مجاملة دبلوماسية، بل إقرار بدور فرنسي تاريخي في دعم القضايا العادلة، وتأكيد على أن باريس كانت، ولا تزال، حاضنة لقيم الحرية التي تجسدها الپيشمرگة على الأرض.

وفي كلمات محملة بامتنان يعتصر قلب أمة، خاطب بارزاني الحضور قائلاً: «الپيشمرگة الأبطال قاموا بالواجب المقدس، ولكن التقدير الذي تقدمونه اليوم هو تتويج لسنين طويلة من النضال لقوات الپيشمرگة وللصداقة بين شعب فرنسا وشعب كوردستان». إنه اعتراف بأن التضحيات، وإن قدَّمها الجنود بقلب طاهر لا ينتظر جزاء، فإن تقديرها هو إشاعة لعدالة التاريخ ووفاء للذاكرة الجماعية للإنسانية.

رسالة طمأنة للعالم

الرئيس بارزاني وجّه رسالة طمأنة للمجتمع الدولي مفادها أن كوردستان ستبقى «مكاناً للتعايش والمحبة للجميع»، مؤكداً أن «قوات الپيشمرگة ستكون دائماً حامية لحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية». هذه الرؤية جعلت كوردستان نموذجاً للتعددية والانفتاح في منطقة تمزقها النزاعات الطائفية، وتؤكد أن السلاح الذي حملته الپيشمرگة لم يكن إلا وسيلة لحماية هذا النموذج الفريد.

ولكن كل هذا البناء لم يأتِ مجاناً. وقد كشف الرئيس بارزاني عن الثمن الباهظ الذي دُفِع على مذبح الحرية، قائلاً: «في الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي قدمنا 11 ألف من الپيشمرگة بين جريح وشهيد». هذا الرقم ليس مجرد إحصائية، بل هو قصة شعب بأكمله وقف سداً منيعاً في وجه أعتى تنظيم إرهابي عرفه العالم الحديث، دافعاً ثمناً من دمائه نيابة عن العالم أجمع.

جذور البطولة

لكن قصة الپيشمرگة أعمق من أن تُختزل في لحظة تكريم واحدة. ولتأطير هذا الإرث، يقدم عبد السلام برواري، عضو الحزب الديمقراطي الكوردستاني والنائب السابق في برلمان كوردستان، شهادة حية من قلب التاريخ. يصف برواري الپيشمرگة بأنها «نتاج معاناة الشعب الكوردي»، موضحاً طبيعتها الفريدة التي تميزها عن أي قوة مسلحة أخرى في العالم.

ويكشف برواري عن النشأة الطوعية لهذه القوات، قائلاً: «بداية الپيشمرگة في كوردستان العراق كانت مسألة طوعية، لم يكن هناك مقاتلون محترفون... كان تنظيم الحزب يلجأ إلى القرى ويجمع الرجال المسلحين الذين يأتون معظمهم بسلاحهم الشخصي». هذه الصورة لا تختلف عن نشأة أمم كبرى بنيت على التضحيات الطوعية لأبنائها.

والأكثر إثارة في رواية برواري هو الطابع المجتمعي العضوي للپيشمرگة، فهي «نابعة من المجتمع وتمثيل حقيقي للمجتمع ولإرادته». ويتذكر بفخر: «عندما لم تكن هناك مواجهات... كنا نساهم في بناء القناطر وتصليح الطرق ومساعدة الفلاحين». ويسترجع مشهداً مؤثراً من عام 1980 يختزل عمق العلاقة بين المحاربين والشعب: «عندما كنا نزور المناطق... كانت نساء القرية يتسابقن لتقديم الطعام ووضع الخبز في حقائبنا قبل انطلاقنا، كنَّ يرفعن أيديهن إلى السماء يدعون لنا».

تنوع وتميز

من أهم ما يميز الپيشمرگة هو تنوعها الذي يعكس غنى نسيج كوردستان المجتمعي. يؤكد برواري أن «تنوع الپيشمرگة ووجود عناصر من كافة القوميات والأديان والطوائف تعبير عن السياسة التي اتبعها الحزب الديمقراطي الكوردستاني». ويكشف إلى أن الحزب جاء ليعبر عن «منطقة جغرافية وتاريخية تضم الكورد والتركمان والآشوريين والكلدان والمسلمين والإيزيديين والمسيحيين».

كما يتطرق برواري إلى تطور دور المرأة في الپيشمرگة، من دور مساند في البداية إلى مشاركة فعلية في القتال، قائلاً: «خلال المراحل المتقدمة من الثورة... انضمت النساء لقوات الپيشمرگة وصولاً إلى تكوين وحدات من النساء يتدرَّبن ويقمن بمهام عسكرية أيضاً».

الاعتراف الدستوري

يشير برواري إلى محطة فارقة في تاريخ الپيشمرگة تمثلت بالاعتراف الدستوري بها بعد عام 2003، قائلاً: «تم إدراج اسم الپيشمرگة أولاً، وثانياً تم الاعتراف بقوات الپيشمرگة باسم حرس الإقليم» مشيدا بدور الرئيس بارزاني في تحقيق هذا الإنجاز، موضحا أنه «كان حاداً وصريحاً في المفاوضات... مؤكداً أن الپيشمرگة ليست قوة ميليشيا تكونت بعد أحداث 2003».

ويؤكد برواري على تميز الپيشمرگة عن غيرها من التشكيلات المسلحة، قائلاً: «بقيت الپيشمرگة أمينة لمهمتها الرئيسية»، في وقت «تحولت فيه التنظيمات الأخرى إلى تشكيلات لها شركات واستثمارات وتتدخل في السوق».

تكريم له دلالاته

ويقدم الدكتور مهند الجنابي، أستاذ العلاقات الدولية، قراءة للحدث قائلاً «لا يُعتبر مجرد خطوة رمزية، بل يحمل دلالات سياسية عميقة». ويوضح أن «تسمية معالم عامة في عاصمة بحجم باريس هي شكل من أشكال الاعتراف الدبلوماسي غير المباشر».

ويحدد الجنابي ثلاثة أبعاد استراتيجية لهذا الحدث، أولاً: «تثبيت الشرعية الدولية» للپيشمرگة كقوة ساهمت في الأمن الدولي. ثانياً: «تقوية الحضور السياسي للإقليم» أمام المؤسسات الأوروبية. ثالثاً: «إعادة التموضع الدبلوماسي» حيث تعامل أوروبا مع كوردستان كفاعل سياسي مستقل.

ويشير الجنابي إلى أن «فرنسا كانت من أوائل الدول التي قدمت دعماً عسكرياً ولوجستياً مباشراً للپيشمرگة في مواجهة داعش»، مما يجعل هذا التكريم «ترسيخاً لذاكرة مشتركة من النضال ضد الإرهاب».

ربما تكون العبرة الأعمق في كلمات برواري عندما يتحدث عن مكانة الپيشمرگة في وجدان الأجيال الجديدة، قائلاً: «إن لم يكن الأطفال أو المراهقون في هذا الجيل الجديد يعرفون الكثير عن تاريخهم... فإن كلمة الپيشمرگة وزي الپيشمرگة ودورها شيء مفهوم لديهم جميعاً، وينظرون إلى الپيشمرگة كما ينظرون إلى الأبطال الأسطوريين».

قوات الپيشمرگة (بمعنى «مواجهو الموت»، ويقابلها «الفدائي» بالعربية) التي تشكلت في أوائل القرن العشرين مع بداية الحركة التحررية الكوردية وتنامت مع إعلان الثورة الكوردية في بداية الستينات بقيادة الملا مصطفى بارزاني لتصبح جزءاً من الهوية الكوردية للدفاع عن الحقوق والحرية.




X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved