تتصدر القضية الفلسطينية اليوم واجهة النقاشات والمبادرات الإقليمية والدولية وهي حالة مفارقة لم تمر بها منذ عقود بهذا الاهتمام وإظهار المواقف المؤيدة خاصة لدى الغرب الذي كان دائماً يقف في صف إسرائيل بدل الشعب الفلسطيني، إلا أن المواقف قد تغير فجأة بعد أحداث غزة لتصبح شبه موحدة اليوم في خطابها حول حق الفلسطينيين في تقرير المصير. هذا الموقف قد يبدو خطوة مهمة نحو السلام والاستقرار في الشرق الأوسط والعالم، ولا أحد يستطيع إنكار ذلك، ونحن الكوردستانیون من جانبنا أول من دافع ويدافع عن هذا الحق لإخوانهم الفلسطينيين، بل وننظر إليها على أنها أقل ما يمكن أن يقدم لهذا الشعب من قبل المجتمع الدولي.
سلام ناقص
لكن بالنظر إلى قضية السلام في المنطقة في نطاقها الأوسع، يتكشف للكوردستانیین حجم الصورة المشوّهة للسلام الذي يتبناه المجتمع الدولي عندما يقتصر الأمر على قضية فلسطين وحدها في الدعوة إلى «السلام العادل». فهذه الصورة لدى الكورد ناقصة تماماً، ويرون معاناة شعوب أخرى مثل الكورد، أقل أهمية، أو أكثر قابلية للتأجيل وليست سوى سلعة للترويج والعرض الإعلامي في المزادات السياسية، من دون تقديم أي حل حقيقي لقضيتهم، التي تعتبر أقدم قضية وأكثرها تعرضاً للإهمال من قبل المجتمع الدولي.
في الواقع، لا يمكن الحديث عن أي سلام عالمي أو استقرار إقليمي حقيقي ما لم تطرح القضية الكوردية على الطاولة بالجدية نفسها، فهي قضية شعب يتجاوز تعداده 45 مليون نسمة، موزعة على أربع دول رئيسية في المنطقة، في حين يفتقد غاليبتهم حتى اليوم الاعتراف بحقوقهم الأساسية. فكيف يمكن للعالم أن يتحدث عن سلام حقيقي بينما يتجاهل قضية شعب بهذا الحجم؟
القضية الكوردية ومعيار العدالة الدولية
الشعب الكوردستاني، ومعهم كل الأحرار، لا ينظرون إلى القضية الكوردية على أنه أقل شأناً، من حيث الأساس الأخلاقي والسياسي، من القضية الفلسطينية. فكلتاهما تتمحور حول حق تقرير المصير والاعتراف بالهوية الوطنية. فإذا كان المجتمع الدولي، باستثناء أمريكا، قد صوتت لصالح فلسطين ووصفت الخطوة بأنها تحقيق للسلام العالمي، فنرى أن تجاهل القضية الكوردية يبقي جذور التوتر مفتوحة ويقوض مصداقية النظام الدولي.
حملات الإبادة التي تعرّض لها الكورد في تاريخهم المرير، مثل حملات الأنفال عام 1988 التي أبادت أكثر من 180 ألف مدني، أو قصف حلبجة بالأسلحة الكيمياوية، ليست مجرد أحداث تاريخية، بل شواهد حيّة على إخفاق العدالة الدولية، والاستمرار في هذا الإنكار والإهمال من قبل المجتمع الدولي تجاه القضية الكوردية لا يفتح فقط جروحاً تاريخية، بل يعيد إنتاجها بأشكال جديدة ويفتح المجال لصراعات قابلة للانفجار في أي لحظة. هذا التجاهل يطرح سؤالاً مؤلماً من قبل الكورد: هل العدالة الدولية تطبق حسب المصلحة أم حسب المبدأ؟
عقلية المركزية والتحفظ على التعددية
من منظور كوردستاني، فإن العقبة الكبرى أمام أي مشروع سلام عادل في المنطقة لا تتوقف عند حدود غياب الاهتمام الدولي الكافي، بل تمتد إلى العقلية السياسية السائدة في الدول التي يعيش فيها الكورد. هذه العقلية تميل غالباً إلى المركزية الصارمة، إذ يُنظر إلى الوحدة من خلال نموذج واحد للدولة والهوية، يقوم على قومية واحدة، ولغة واحدة، ورؤية سياسية موحدة. ورغم أن هذا النهج يُقدَّم باعتباره ضمانة للاستقرار، إلا أن التجربة التاريخية أثبتت أنه غالباً ما يؤدي إلى عكس ذلك: تفاقم الانقسامات، وفتح الباب أمام صراعات جديدة.
ما يميز هذه العقلية في نظرنا أنها لا تقوم فقط على خيارات سياسية، بل تجد جذورها في أطر أيديولوجية ودينية وقومية تمنحها نوعاً من الشرعية. وهنا يختلف الشكل من دولة إلى أخرى، لكن الجوهر يبقى متشابها:
تركيا: تعمل على تعزيز وحدتها الوطنية من خلال الدمج بين التوجهات القومية والدينية، وهو ما يجعلها ترى في التعددية القومية تحدياً لمشروعها الإقليمي.
إيران: تحت مظلة ولاية الفقيه، يمنح النظام القيادة الدينية سلطة شاملة، وهو ما ينعكس على طريقة التعامل مع التنوع الداخلي، حيث يغلب منطق التوحيد على منطق التعددية.
العراق: شكل الدستور الفيدرالي نافذة أمل للكورد وغيرهم في بناء شراكة حقيقية، لكن التطبيق ظل أسير التوازنات المذهبية والسياسية، الأمر الذي حدَّ من ترسيخ الفيدرالية كخيار فعّال.
سوريا: تستند بعض التيارات ذات الخلفية الدينية أو القومية إلى فكرة الوحدة الصلبة، رافضة أي نقاش حول أي شكل من اللامركزية، رغم أن التجربة الميدانية أثبتت أن اللامركزية قد تكون أكثر قدرة على حفظ الاستقرار.
عندما نراقب الساحة السياسية في هذه الدول نرى أنها بالرغم من اختلاف المرجعيات والظروف، إلا أن نقطة الالتقاء بين هذه الدول تكمن في تفضيلها للمركزية كخيار أول، والنظر إلى مشاريع التعددية أو الفيدرالية بوصفها تهديداً محتملاً. بالنسبة للكورد، لا يعكس هذا الموقف إغفالاً لحقوق أساسية فقط، بل يعيد إنتاج أزمات متكررة تمنع أي استقرار طويل الأمد.
بالنتيجة، نرى أن السلام الحقيقي في المنطقة لن يتحقق ما لم يعاد النظر في هذه العقلية. وما لم ينظر الى التعددية بكونها ليست تهديدًا، بل فرصة لإعادة بناء الثقة والشراكة بين المكونات. والاعتراف بحقوق الكوردستانيين، كما بحقوق الفلسطينيين، لا يعني إضعاف الدول القائمة، بل تقويتها من خلال تحويلها إلى أوطان يتسع صدرها لجميع مواطنيها. هذا هو التحدي الحقيقي أمام المنطقة إذا أرادت الانتقال من دائرة الأزمات إلى فضاء السلام والاستقرار.
الصراع المثلث الإقليمي والدور الدولي
يحس الكوردستاني بأن ما يغذي الصراع وعدم الاستقرار وتهديد السلام في المنطقة تعود بالدرجة الأولى إلى تشابك الصراع الإقليمي فيما بين تركيا وإيران والدول العربية مع الدور الدولي وصراعهم على المنطقة، حيث يُستغل الملفان الفلسطيني والكوردي لدى هذا المثلث الإقليمي في سياق الصراع الأكبر على النفوذ والموارد والممرات الاستراتيجية، بحيث يحاول كل طرف إقليمي توظيف قضية واحدة أو كلاهما لتعزيز موقفه، بينما القوى الدولية تضخم وتصغر هذه القضايا حسب مصلحتها ولتبرير تدخلاتها، فيتحول الملف الكوردي، كما الفلسطيني، إلى ورقة تفاوض لا إلى قضية حقوقية، ما يؤدي إلى استمرار النزاعات وتأجيل الحلول العادلة، والمزيد من دفع ضريبة الأرواح من قبل الشعبين الكوردي والفلسطيني.
بين الإسلام والديمقراطية
الإشكالية الأخرى المستعصية على الحل في التعامل مع القضية الكوردية في الدول التي تضم الكورد تتحدث عن الإسلام أو الديمقراطية، لكن في الممارسة لا تطبق أياً منهما. فالإسلام يرفض التمييز على أساس العرق أو القومية، كما أنها تلزمهم بإعطاء حق الكورد في تقرير مصيرهم ما دام علماؤهم يشرعنون نظام الدول القومية الحالية كأساس لدولهم. وهذا يتطلب إعطاء الكورد نفس الحق، أو على أقل تقدير الفيدراليات التي تعتبر نسخة معاصرة لتجربة الإمارات التي كانت موجودة في العهود الإسلامية، وآخرها في العهد العثماني فكانت هناك من 16 إلى 17 إمارات كوردية شبه مستقلة. حينها سيكون منطلقاً لحل عادل يضمن الشراكة والمساواة.
أما من منظور من يتبنى الديمقراطية، والذي وفق مبادئها، هم ملزمون بمنح الكورد حقهم الطبيعي في تقرير مصيرهم ومنها الحكم الذاتي أو الفيدرالية كأقل تقدير بدل منحهم دولة خاصة بهم كما لبقية القوميات. إلا أننا نرى حرمانهم واتهامهم مرة بالخيانة والعمالة، لدى مدعي الديمقراطية، أو الخروج عن الملة وشق عصا الأمة عند المطالبة بهذه الحقوق، لدى التوجه الإسلامي. وهذا التناقض يشكل مفارقة سياسية وأخلاقية، لا بد من إصلاحها إذا كان هناك أي نية حقيقية للسلام والعيش المشترك.
نحو سلام شامل
المناطق الكوردستانية كما هو معلوم غنية بالموارد الطبيعية والممرات الحيوية للطاقة والتجارة، ما يجعلها محور تنافس عالمي بين الولايات المتحدة والغرب، والصين، وروسيا. وتجاهل القضية الكوردية وعدم حلها يترك فراغاً سياسياً وأمنياً يستغل من القوى الإقليمية والدولية، بينما إشراك الكورد في التنمية وقرارهم السياسي يحولهم إلى ركيزة استقرار، ويقلل من الصراعات ويفتح فرصاً لمشاريع اقتصادية مشتركة.
ولا يعني السلام العادل للكورد تفكيك الدول، بل يمكن أن يتجسد في الحكم الذاتي أو الفيدرالية، مع ضمان الحقوق الثقافية والسياسية. فمثل هذه الحلول تُعزز استقرار الدول بدل تهديدها. والاعتراف بالشعب الكوردستاني جزء لا يتجزأ من بناء سلام شامل، كما أنّ حل القضية الفلسطينية شرط لا غنى عنه لتحقيق استقرار حقيقي في المنطقة. ولتحقيق ذلك لابد من خطوات عملية منها:
- إدراج القضية الكوردية في مؤتمرات السلام، لا التعامل معها كملف ثانوي.
- إدراج القضية الكوردية في مؤتمرات ومنظمات إسلامية تسمح أو تسعى لحل مثل هذه القضايا.
- إلزام الحكومات المعنية باحترام الحقوق الدستورية والسياسية للكورد.
- إشراف دولي على أي حوار بين الكورد والدول المضيفة.
- دعم التنمية الاقتصادية في المناطق الكوردستانية لتقليل احتمالات النزاع.
وفي الختام نقول:
السلام في الشرق الأوسط سيبقى ناقصاً مادام يتجاهل الكورد. فالقضية الكوردية، مثل نظيرتها الفلسطينية، تمثل اختباراً لمصداقية المجتمع الدولي.
واستمرار العقلية المركزية القسرية، والخطابية الثنائية (الإسلامية أو الديمقراطية) المتناقضة في التطبيق، والصراعات الإقليمية والدور الدولي الذي يضخم القضايا بدافع مصالحه، يجعل المنطقة في دائرة حروب لا تنتهي. وإن وضع حل عادل للقضية الكوردية لم يعد خياراً ثانوياً، بل ركيزة أساسية لأي مشروع سلام عالمي حقيقي ومستدام.
سامي ريكاني: باحث في الشأن السياسي