نحو مواطنة متساوية في العراق
نحو مواطنة متساوية في العراق

أنصار حِراك التسامح المجتمعي في العراق ينتظرون السادس عشر من شهر نوفمبر المقبل لرد الاعتبار لهذا اليوم المهم، والإنساني، وتفعيل تجسيداته في الواقع، ولنشر ثقافة المواطنة والمساواة وتحريم نعرات الإقصاء التي تقسّم المجتمع إلى مراتب عنصرية، أو إلى مكونات حاكمة وأخرى محكومة.

ففي نوفمبر الماضي مرت هذه المناسبة حزينة ومنبوذة  في العراق،  وهي من أبرز المناسبات الحقوقية التي يجري إحياؤها في الكثير من الدول لجهة درء ثقافة الكراهية والتخويف والحملات الثأرية، وواحدة من إنجازات عصر التنوير والتعايش واحترام التعددية والحوار، موصولة – باضطراد - بضرورة بناء مواقف حية وتشريعات مدنية على نطاق واسع.

وكان نيسلون مانديلا أحد أركان «الإعلان العالمي للتسامح» في عام 1994 حين افتتح رئاسته لجمهورية جنوب أفريقيا  بقرار إبقاء الأنصاب والتماثيل التي أحبّها البيض في الشوارع العامة وعدم معاقبة شرطة نظام الأبارتهايد عن جرائمهم التي ارتكبوها ومنع نشر أسمائهم علانية. كما ذهب الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسو ميتران إلى إسقاط الأحكام عن مدير شرطة باريس بوسكيه، المسؤول المباشر عن قتل سياسيين معارضين للهتلرية ومعهم أربعة آلاف طفل. وقد حدثت ضجة كبيرة بسبب هذا الإعفاء، وردّ ميتران في حينه بالقول: «نحن لا نستطيع أن نعيش حياتنا كلها سجناء هذه الذكريات وهذا الحقد».

التسامح كمنظومة تجريدية من العقائد والالتزامات والثقافات العصرية، يبدأ من استعداد الأفراد لطي صفحات الصراع ودورات التنكيل، ما يعطي الفرصة والبيئة للمذنبين أنفسهم لمراجعة ذنوبهم والاعتراف بها والاعتذار عنها.. تلك هي المعادلة «الإشكالية» التي لا يخوض فيها الناشطون والباحثون في بلدان كثيرة، مرت، أو تمر، في نزاعات سياسية وإثنية ودينية ومجتمعية، ويتجنبها السياسيون الذين يشيدون رصيدهم ونفوذهم على إثارة الكراهيات ونعرات الانتقام بين شرائح المجتمع والسعي للقصاص وسد منافذ الأوكسجين على الجناة وعائلاتهم وذريتهم.

ثمة مسرحية عُرضت بلندن عام 1990 عنوانها «الموت والعازبة» وهي مسرحية تشيلية أبطالها ثلاث شخصيات وهم المحامي جيراردو، وزوجته بولينا سالاز والطبيب ميراندا، حيث عُهدت للمحامي (الزوج) مهمة المشاركة في لجنة تحقيق في الجرائم التي ارتكبتها دكتاتورية أغستو بينوشيه وكان من دُعاة التسامح ويريد أن يخرج من هذا التحقيق مع الجلادين بما يرسِّخ السلم الأهلي في العهد الديمقراطي الجديد. يصادف المحامي وهو في الطريق إلى منزله ليلاً أن تتعطل سيارته في مكان محرج، وبعد ساعات طويلة من الانتظار تقف إلى جانبه سيارة فيقدم صاحبها (الدكتور ميراندا) عرضاً بالمساعدة في إصلاح عطل السيارة. وهكذا، يبادر المحامي إلى دعوة الطبيب إلى منزله لتناول كوب من الشاي بهدف التعارف وردّ الجميل. ولما أقبلت الزوجة للترحيب بالضيف تفاجأت وصرخت قائلة: «إنه جلادي»، ثم تصاب بالهستيريا إذ تتذكر كيف اغتصبها هذا الطبيب في زنازين الفاشية وعذبها، فيما يحاول المحامي الزوج أن يقنع زوجته الضحية بأن تصفح عن جلادها لطي صفحات الماضي البغيض. لكن بولينا سالاز تفقد السيطرة على نفسها فتمسك بالمسدس وتهجم على الطبيب الجلاد وتوثقه على كرسي وتدخل معه في حوار متوتر ومحاسبة واستذكار. والمهم أن المسرحية أثارت جدلاً وأغنت الحوار حول موضوعة التسامح التي تجاوزت خشبة المسرح إلى فضاء العقل الإنساني.

من هذه الزاوية يبدو أن الدعوة إلى إشاعة التسامح في عراق جرى إخضاعه لكوابيس التعصب والتمييز والانتقام عقوداً تفتح بوابات الصدام بحراس الكراهية وسلطتهم.. وهذا يُفسر لماذا مرّ يوم التسامح العالمي في العراق بجنازة  صامتة بدل أن يُحتفى به كيومِ للبشرية التي تحترم نوعها.


عبد المنعم الأعسم: صحفي وكاتب عراقي

 


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved