يُعيد المجتمع الحيّ النظر في حاضره في كلّ حقبة، وإلا أصابه الجمود، وما يتبعه من ركود وتأخّر عن دورة الحياة، أما الماضي فهو ثابت. في خلال الثورة الثقافيّة (1966 ـ 1976) دمّر الحرس الأحمر الموالي لماو تسي تونغ كلّ ما يتعلق بالماضي في الحياة الصينيّة، وكان المطمح تقويض وطمس ما يعود إلى الأنظمة التي حكمت في السابق، من أجل أن تترسّخ سلطة الزعيم ماو كليّا، وتكون دمغة حكمه ثابتة، وتتمدّد في اتجاه المستقبل، والماضي أيضاً.
هل كان الرجل مشوّش الذهن حين فكّر فيما هو مقدم عليه؟ لقد أمر شعبه أن ينسى تاريخه مرّة واحدة، وإلى الأبد، بما فيه من أفكار قديمة، وثقافة قديمة، وعادات قديمة، وتقاليد قديمة؛ مجموع ما يُدعى بالأربعة القديمة، أي الشفرة الوراثيّة للمجتمع، أو الـ«دي إن أي» الخاصّ به.
إرغام المواطنين على نزع ما يجري في دمائهم، وتطهيرها من روائح الماضي، يؤدي بهم إلى أنهم «يتذكرون دائماً أن ينسوا»، بتعبير المؤرخ الأمريكي تشارلز هندرسن، وتكون النتيجة أنه لن يغيب شيء عن بالهم، أي أن الفعل سوف يؤدي إلى ردّة فعل أقوى. وهذا ما حدث بالفعل، بالرغم من سياسة الرعب والترهيب التي استعملها الزعيم الصيني، جالباً الدمار والموت لشعبه، أو بالأحرى إلى نصف شعبه، لأن النصف الآخر كان يهتف له في أثناء قيامه بالمجازر والفظائع.
أثبتت الأحداث التالية أن الثورة الثقافية كانت عبارة عن كتلة وهم هائلة، ولا شيء غير ذلك، حتى التفاصيل الدقيقة في الديانة البوذيّة، وتعاليم كونفوشيوس، بالإضافة إلى تقاليد الحياة الموروثة، عادت كلها بعد وفاة ماو، بل إنها صارت أقوى بكثير وأمتن، كأن دماء المقتولين والمعذّبين لم تسِلْ هدْراً، وتحوّلت إلى سماد امتصّته جذور الشجرة ذات الأغصان الأربعة، والتي حاول الزعيم الصيني اقتلاعها من أرض البلاد. كما لو أن نهضة الصين الحديثة اليوم سببها ردة فعل المجتمع ضدّ تلك الثورة، وليست الثورة في حدّ ذاتها.
تتغيّر البشرية باستمرار، ويمكن لقوانين الأدب أن تصحّ في علم الاجتماع. نظرية ابتكرها الشاعر بورخيس، وتنصّ على أن «الشاعر يخلق أسلافه»، بعبارة أخرى، وإذا نحن نقلناها إلى الواقع الذي نعيشه، فإنها تكون بهذه الصيغة: «الماضي يولد من الحاضر، وليس العكس».
بالنسبة إلى هذا الجزء من البلاد، الذي يُدعى الآن كوردستان العراق، كانت سياسة الحكومة السابقة هي التنكيل بشعبه وسرقته ومحاولة إخضاعه واستعباده، بالإضافة إلى إلغاء تاريخه، أو تشويهه وتزويره. يمكن مشابهة الثورة الثقافيّة للزعيم الصيني، بالـ«الثورة البعثية» التي قام بها النظام السابق، من ناحية الوسائل لا الغايات بالطبع؛ فالأول كان هدفه تأسيس بلد صناعيّ حديث ومتطوّر، بينما الحال بالنسبة لحزب البعث مختلفة تماماً، فقد استحوذت على أذهان رئيسه وأعضاء الحكومة فكرة عسْكرة المجتمع، من أجل أن تتقاتل مكوّناته مع بعضها بعضاً، الكورد ضدّ العرب، والعرب ضد العرب، والكورد فيما بينهم.
انتهى كل هذا وأصبح من الماضي الذي لا يُريد أن يذكره أحد، فهو بالتالي لا يدخل ضمن تاريخنا الطبيعي، وهذا يختلف بصورة جوهرية عن التاريخ السياسي؛ الأول هو الفعّال والباقي، إذ تجري فيه وتغذّيه الأربعةُ القديمة التي مرّ ذكرها، تنقل شفرته الوراثية عبر الأجيال، بينما تصنع المآسي والمغامرات العاثرة التي يقوم بها الطغاة تاريخاً عادة ما يكون بائساً وقصيراً، وتزول آثاره من الواقع حتماً.
العالم دائم التغير ودائم التكرار في آن واحد، وتكبر البلاد وتتمدد نتيجة للصراع بين التاريخين الطبيعي والسياسي، ولدورات الزمان نصيب في هذا الخضمّ، إذ ربما تهيّأ للبلد نسق من نظام للحكم تمكن الشعب بواسطته من تحريك جمرات النار في الرماد، وبهذا تثبت حجّة الشاعر الأرجنتيني في أن الحاضر يصنع الماضي.
التقاليد القديمة عظيمة، والانفتاح إلى الخارج عظيم أيضاً، كما أن النجاح في الحياة يتطلب الكثير من الكفاح، وصلابة النفس والقدرة على المطاولة.
من يزُر إقليم كوردستان اليوم يستطِع التحقق من أن الحب ينتصر، في الدورة الكبرى في الحياة، على العنف والكراهية. في كل شارع وحيّ في (هَولير)، وهو اسم مدينة أربيل باللسان الكوردي، يشعر المرء بشيء من النشاط يصارع السكون الذي يطبع بقية مدن العراق، في وسطه وفي الجنوب. النظر إلى المستقبل سهل هنا، بل إن المدينتين الرئيسيتين في الإقليم، أربيل والسليمانية، أصبحتا ملاذاً للعراقيين والعرب، يقصدون أيّاً منهما في حالة طلب العلاج والنقاهة، بالإضافة إلى السياحة أو حتى السكن الدائم.
بالرغم من قلة الموارد المالية المخصصة، قياساً بما تحصل عليه الحكومة المركزية، المسؤولة عن وسط وغرب وجنوب العراق، أصبحت النهضة التي يعيشها الكورد في موطنهم، حلماً بعيد المنال لبقية العراقيين. أربيل والسليمانية اليوم مدينتان عصريتان يأتيهما الأكاديميون والفنانون والحرفيون من جميع الجهات، والمستثمرون أيضاً ورجال الأعمال. هل نستطيع القول إنه صار إقليماً كوزموبوليتيّاً، أي كونيّاً ينتمي إلى العالم أجمع لا إلى الكورد وحدهم، وكلّ هذا حصل في زمن لا يتعدى عقدين أو ثلاثة؟
إذا فَتَرتِ الجهود فهي عقيمة وجرداء وقصيرة الأمد، وتكمن المخاطر الرهيبة عندها في كل منعطف، فهذه الأرض محاطة بالألغام من كل جهة. لدينا تاريخان؛ طبيعي وسياسي، لكن حاضر البلاد يصنعه ما يمكن أن ندعوه «التاريخ الجمعي»، يتشكل من التاريخ الخاصّ لجميع الساكنين؛ الكورد والعرب والأجانب المقيمين والسياح، الذين يتركون علامات على استمرار الحياة وتطورها.
حيدر المحسن: كاتب