في زمنٍ تتقاطع فيه القيم مع المواقف، يبقى الوفاء والاحترام علامات لا تُنسى. ومن بين تلك اللحظات المضيئة، أستحضر مواقف نبيلة جسّدها قادة سعوديون كبار تجاه الشعب الكوردي، أنقلها إليكم عبر مجلة «كوردستان بالعربي».
قادني عملي مستشاراً لعدد من الشخصيات العالمية في دروب الأعمال والقانون، لأطرق أبواب وعوالم لم أكن أتخيل يوماً أنني سأعبرها. وفي منعطف نادر من تلك الرحلة، انفتحت أمامي أبواب مجالس أمراء آل سعود، العائلة التي توصف بأنها محور التوازنات في قلب الشرق الأوسط.
لن أغوص في تفاصيل تلك العلاقات المتشعبة، فلكل حكاية أوانها. لكنني سأشارككم ذكرى بقيت كالجمرة الدافئة في وجداني، لحظة تاريخية جمعتني بأحد شهود العصر، الأمير عبد الله بن عبد الرحمن آل سعود، الأخ غير الشقيق للملك المؤسس عبد العزيز.
الشيخ محمود الحفيد
كان ذلك مساء يومٍ اعتيادي خلال عملي مستشاراً لابنه، الأمير خالد بن عبد الله، الذي دعاني إلى مجلس والده. هناك وسط هدوء المجلس، سأل الأمير عبد الله ابنه عن هوية ضيفه الجديد، فأجابه: «إنه كوردي، يا طويل العمر»، ارتسمت على وجه الأمير عبد الله ابتسامة مرحّبة، وقال: والنعم! ثم اعتدل في جلسته مردفاً: «دعوني أروِ لكم قصة عن الكورد». وكأنما يستحضر مشهداً من عمق التاريخ، راح يسرد موقفاً مر عليه أكثر من نصف قرن، لكن تفاصيله بقيت حية في ذاكرته كأنها حدثت بالأمس.
فحكي الأمير روايته: «في عام 1922، كنتُ مع أخي عبد العزيز في الكويت، استضافنا أميرها على مأدبة عشاء جمعت شخصيات رفيعة، وكان من بينهم شيخ كوردي يُدعى الشيخ محمود الحفيد، كان عائداً من منفاه في الهند إلى كوردستان ليعلن نفسه ملكاً عليها، رافضاً لقب الحاكم الذي منحه إياه الإنجليز. في تلك الجلسة بدأنا نتهامس فيما بيننا حول خطة استعادة حصن المصمك (مقر حكم آل رشيد آنذاك، الذي كان يعتبر رمزاً لاستعادة الحكم، فاسترداده يعني عودة آل سعود إلى الرياض). فجأة، ضرب أخي عبد العزيز الطاولة بيده وقال بحزم: لدينا ضيف كوردي بيننا، لا يجوز أن نناقش هذه الأمور أمامه، فهذا شأن يخصّنا. لكن الشيخ محمود، بحنكته المعهودة التفت إليهم بهدوء وسأل: كم عدد الرجال الذين سيشاركون في العملية؟ أجابه الإمام عبد العزيز: أربعون مقاتلاً!
نظر إليهم الشيخ باستغراب، وقال: هل يكفي هذا العدد لتحرير الحصن؟ لقد جاء إلى الكويت مئات الرجال الكورد من السليمانية وأربيل وكركوك لاستقبالي ومرافقتي أثناء العودة إلى العراق. إنهم الآن رهن إشارة مني، وهم أمام الجامع الكبير، وعلى أهبة الاستعداد للمشاركة في تحرير أرضكم من أعدائكم، ودعمكم لتثبيت حكمكم. كان عرضاً سخياً لكن الإمام عبد العزيز قال بهدوء: نشكركم يا شيخنا على هذه المبادرة، لكن لا يمكن لنا أن نحرر بلادنا إلا بأيدي أهلها، نحن ذاهبون للتحرير لا للاحتلال، وأربعون من رجالنا الشجعان يكفون لهزيمة مئة».
بعد أن أنهى الأمير عبد الله قصته، التفت إليّ بنظرة فضولية وسأل: ماذا حل بالشيخ محمود الحفيد؟ أجبته: توفي عام 1956 ودُفن في مرقد الشيخ كاك أحمد الشيخ بالسليمانية. وما إن نطقت بالاسم، حتى أسهب الأمير في الحديث عن الشيخ ومكانته، بدقة أدهشت كل الحاضرين.
قصة من مجلس أمير قطر
في إحدى المرات، دعاني الأمير (الملك حالياً) سلمان بن عبد العزيز لمرافقته في زيارة إلى أمير قطر. وبينما كانت الأحاديث تدور في مجلس الأخير حول قضايا المنطقة، وقف الصحفي الفلسطيني ناصر الدين النشاشيبي وقال في لحظة صادمة: «أحد المخاطر التي تواجهنا اليوم هم الكورد، إنهم إسرائيل الثانية». لم يكد النشاشيبي ينهي جملته حتى شعرت بنظرة الأمير سلمان الثاقبة نحوي. صاح بي: «يا دارا انهض! هل سمعت ما قاله عن الكورد؟». كانت تلك هي الإشارة التي كنت أنتظرها. انتهزت الفرصة وقلت: «يا سيدي، هذا كلام غير مقبول، هناك جهات تعادي الكورد كشعب وليس كسياسة. من حيث المبدأ الكورد مسلمون وتجمعنا بالعرب روابط تاريخية ودينية، فكيف نكون إسرائيل ثانية؟». عندها ابتسم الأمير سلمان وقال للنشاشيبي: «لقد أفحمك يا ناصر الدين».
في مجلس الأمير سلمان
وفي جلسة أخرى أكثر خصوصية في منزله، انتقد الأمير سلمان بعض الممارسات لدى الكورد معتبراً إياها مناقضة للدين، لكنه أضاف: «لا ألومهم، فمعرفتهم بالدين ليست كافية باستثناء رجال الدين منهم». أجبته: «صحيح أن أغلب الكورد لا يتقنون العربية، لكننا نملك اطلاعاً واسعاً على التاريخ ولدينا مواقف مشرفة تجاهكم». فلم يجد ما يرد به إلا أن قال مازحاً: «لكنكم تزورون القبور»!
السفير ابن عمي!
أما أغرب المواقف وأكثرها رسوخاً في الذاكرة، فكانت عند غزو صدام حسين للكويت. فبينما كنت في منزل الأمير سلمان نلعب الطاولة / النرد، فجأة، دخل مدير مكتبه وقال: «سيدي وصل خبر بأن السفير التركي في الكويت وصل إلى مدينة الخفجي طالباً اللجوء! ثم أعطى الأمير ورقة، وهو قرأها بصوتٍ عالٍ: «كونر أوستيك».
ما إن سمعت الاسم حتى قفزت من مكاني مستغرباً: «أووو! كونر أوستيك!».
نظر إليّ الأمير بدهشة، واستفسر: «وما شأنك به؟».
أجبته بثقة: «يا سيدي، إذا كان لقبه أوستيك، فهو ابن عمي. أعطني الورقة رجاء». قرأت الاسم وتأكدت، ثم قلت: «هذا ابن عمي، اسمه الحقيقي فتاح أوستيك. بل حتى لقبه كان عطار، لكنه غيره في تركيا».
أمر الأمير سلمان بإحضار السفير إلى الرياض ليتأكد من صدق كلامي. وبعد أيام جاءني مبتسماً وسأل: «يا دارا أنت ابن عم السفير، أم هو ابن عمك؟». أدركت أنه يختبرني، فأجبته: «سمو الأمير، حقق في الأمر كما تشاء، لكنني أؤكد لك أنه ابن عمي». وبالفعل، كان عمي فتاح الثالث في ترتيب أعمامي، قد درس العسكرية في اسطنبول وانضم للجيش التركي وتزوج كوردية من ديار بكر، ثم غير لقبه من عطار إلى أوستيك، التي تعني «النادر» باللغة التركية.
إنها ومضات إنسانية لا تُنسى، لا لأنها ارتبطت بأسماء كبيرة، بل لأنها كشفت لي عن جوهر العلاقات البشرية التي ترتقي فوق حسابات السياسة والجغرافيا. في تلك المجالس كان الكورد يُذكرون بالخير، ليس مجاملةً بل اعترافاً واحتراماً.
دارا عطار: سياسي ورجل أعمال كوردي