حكاية موت الأهوار.. برك متقطعة ونزوح جماعي
حكاية موت الأهوار.. برك متقطعة ونزوح جماعي
November 14, 2025

عند الفجر، قبل أن تتصاعد رياح «السموم» في هواء قرية الرمل التابعة لناحية كرمة بني سعيد، يجلس عامر قطّان على عتبة بيته القديم، يحدّق في الأفق البعيد حيث كان الماء يوماً يلمع تحت شمس الشتاء. وُلد هنا عام 1970، على بعد أقل من مئة متر عن هور الحمار، حينما كان عالماً مائياً مكتفياً بذاته، لا يحتاج إلى المدينة ولا يهتم بالهجرة أو حتى بالدراسة.

يضحك حين يرى صور السائحين هذه الأيام، يقفون قرب بقع مائية متناثرة بين القصب في أشهر المطر، ويكتبون على هواتفهم «هذه هي الأهوار». 

«هذه ليست أهوار.. هذه مستنقعات»، يقول عامر بنبرة مريرة، لمجلة «كوردستان بالعربي».

في طفولته، كان هو ورفاقه يقضون النهار في اصطياد السمك والطيور، يمدّون موائدهم من وفرة الطبيعة. في العاشرة من عمره اندلعت حرب الثمانينات، فتحوّلت الأهوار إلى ملاذ للهاربين من جبهات القتال. كان بردي القصب غطاءً بشرياً للفارين من الجيش، لا يقدر جيش صدام على ملاحقتهم وسط المياه والقصب. لكنّ الحرب الطويلة حملت في طياتها بذور الجفاف؛ ففي النصف الثاني من الثمانينات ارتفع الماء فجأة، وغمر البيوت، ثم انحسر بسرعة، وبدأت خطة التجفيف تلتهم هذه المساحات منذ عام 1985.

حين اندلعت الانتفاضة الشعبانية عام 1991، امتلأت الأهوار بالمتمرّدين، فجاءت السدود الترابية لتقطع شرايين الماء القادمة من دجلة والفرات. تغيّر مجرى الفرات، وصُرف إلى المصب العام، فصارت المسافة بين بيت عامر وأقرب قصبة ثلاثة كيلومترات من أرض قاحلة لا يقطنها سوى الشوك. 

«هل هذه هي الأهوار التي يصوّرها السياح؟ لا وألف لا» يردد عامر.

الصور: أحمد ثامر

 

الأهوار اليوم.. برك متناثرة وثقافة تندثر

في السنوات الأخيرة، صارت كلمات الناشط البيئي علاوي الأهواري أقرب إلى النعي على ما تبقى من هذه البيئة: «منذ 2020، والماء يتراجع، والتصحر يزحف، والثروة السمكية والحيوانية تتقلص، والقصب والبردي يختفيان».

عام 2025، كما يصفه علاوي، هو الأسوأ على الإطلاق: نسبة الإغمار صفر، ما تبقى هو برك صغيرة معرضة للاحتراق، والسكان يهاجرون تاركين وراءهم «الهوية الأهوارية» التي عاشت قروناً على التوازن بين الإنسان والماء.

في نظر علاوي، لم تنقذ الأهوار إدراجها على قائمة التراث العالمي؛ الزيارات الرسمية بقيت شكلية، والمنظمات الدولية اكتفت بالتوعية ودعم الحرف اليدوية. 

«الحكومة لم تضع خطة جادة، سوى مشروع سد بين قضاء المدينة والجبايش، يحبس بعض المياه.. لكن لا استراتيجية شاملة»، يقول الناشط، لـ«مجلة كوردستان بالعربي».

تغريبة سكان القصب

في المدن الجديدة، يجد الأهواريون أنفسهم محاصرين بنمط حياة غريب، وعمل محدود، وغياب مصادر الرزق التي وفرتها الأهوار من الصيد وتربية الجاموس، وصدام ثقافي واجتماعي مع بيئات لم تعتد تقاليدهم.

وفي أحدث إحصاء رسمي نقلته عضو «مرصد العراق الأخضر» في ذي قار، بشرى الطائي، يتضح حجم النزوح الهائل الذي ضرب قلب الأهوار. تقول الطائي إن أكثر من 10,450 عائلة غادرت قراها وأريافها في أقضية البطحاء وسيد دخيل والرفاعي والشطرة والدواية والغراف وناحية الفجر وقلعة سكر، إضافة إلى أهوار الطار والجبايش، متجهة إلى مناطق أخرى في مراكز وأقضية الناصرية وأور وسوق الشيوخ وكرمة بني سعيد وغيرها، بحثاً عن ماء أو فرصة للبقاء.

هذه الهجرة الجماعية ترافقت مع خسارة ثقيلة في الثروة الحيوانية، بحسب المرصد، فقدت المحافظة 11 ألف رأس جاموس منذ 2023، ليتراجع عددها من 21 ألفاً إلى نحو 10 آلاف فقط اليوم. 

يقول مربو الجاموس إنهم يواجهون عراقيل إضافية؛ فنقاط التفتيش تمنعهم من نقل مواشيهم إلى مناطق تتوفر فيها المياه، وتفرض عليهم البقاء في أماكنهم حتى تصل الإطلاقات المائية، إن وصلت.

ورغم أن دائرة الهجرة في المحافظة وزعت سلالاً غذائية وأجهزة كهربائية، ونظمت دورات توعية وتنمية بشرية لمساعدة الأسر النازحة على التأقلم، إلا أن الكثيرين يرون أن هذه الجهود لا تقترب حتى من معالجة الخسارة الأعمق: انهيار أسلوب حياة كامل كان يتغذى على الماء والقصب والجاموس.

خبراء: بيئة منهارة وحلول بعيدة

بالنسبة لأحمد حمدان الجشعمي، الخبير البيئي وعضو تجمع حماية البيئة والتنوع الأحيائي، فإن المشهد أعمق من مجرد أزمة جفاف موسمية.

الأهوار، كما يصفها، ليست فقط موئلاً طبيعياً للطيور المهاجرة وأنواع الأسماك النادرة، بل أيضاً فرصة اقتصادية وسياحية ضخمة، لو استثمرت بجدية لكانت «رافداً آخر كالنفط»، على حد رأيه.

لكن هذه الإمكانيات انهارت مع تراجع الإطلاقات المائية من دول المنبع - تركيا، وسوريا، وإيران - فضلاً عن الجفاف الحاد وقلة الأمطار داخل العراق. وقد صرّح وزير الموارد المائية نفسه بأن هذا العام قد يكون الأقسى منذ 1930. 

والحلول، وفق الجشعمي، تقع على ثلاثة مسارات: سياسي عبر إلزام دول المنبع بإطلاق الحصص المائية المقررة، مثل الاتفاق الأخير مع تركيا الذي نص على 500 متر مكعب في الثانية «ولم يُنفذ»، أو إنشاء سدود جنوبية تحافظ على الماء وتوزعه بكفاءة. وأخيرا «أمل في أمطار مبكرة وغزيرة هذا الخريف، قد تعيد الحياة لبعض المجاري».

ذاكرة الماء

في كرمة بني سعيد، ما يزال عامر قطّان يتذكر أول مرة خاض فيها مياه الهور حتى عنقه، باحثاً عن عش طيور خفية بين القصب. اليوم، يقف في المكان نفسه، فلا يجد سوى تراب متشقق، وحفر جافة كانت يوماً ملاذاً للأسماك.

«الهور ليس مجرد ماء»، يقول عامر «هو ذاكرة ووطن وحياة.. حين يرحل الماء، يرحل كل ذلك».

وبينما تظل الأهوار على الورق جزءاً من تراث العالم، يظل سكانها السابقون، الموزعون على أطراف المدن، يحنّون إلى حياة لم تعد موجودة إلا في الذكريات.


غسان البرهان: صحفي عراقي






X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved