في صحراء العراق حيث يعيش الهادئون مع ملامح البساطة والألفة بعيداً عن ضجيج الدنيا، صباحهم ابتسامة وليلهم سكون، استيقظوا فجأة على صوت سياط البعث وهي تجر إليهم المنفيون عنوةً وقد قدم إليهم جرح كوردي فتعانقا وجعاً.
سنة 1975 حيث بدأت حملات التهجير القسري للكورد عموماً في العراق واستمرت إلى التسعينات، تعددت أساليب التهجير القسري، فكما كانت السلطات تنفي الكورد إلى خارج العراق، تضمنت تهجيرهم من كوردستان إلى الجنوب أيضاً. فقد قامت آنئذ الحكومة البعثية بتهجير عشرات الآلاف من الكورد إلى بادية السماوة بشكل تعسفي وخارج عن الإنسانية.
حين هُجرت العوائل الكوردية إلى السماوة، أُنزلوا في سجن «نگرة سلمان» المعروف، حيث امتلأ السجن بالنساء والأطفال والرجال من الشيب والشباب، وحين اكتظ السجن بالنزلاء الأبرياء نُقلت الآلاف المتبقية إلى المدارس ودوائر الدولة. وصاحب هذه الحملة الإجرامية العديدُ من حالات الوفاة للمهجرين من بين العجزة والأطفال والمرضى وغيرهم، كما تم إعدام الكثير منهم وسجن العديد أيضاً بلا ذنب يذُكر.
حفرة البعث الموحشة
سجن «نگرة السلمان»، الذي كان للكورد فيه ذكريات مؤلمة من بينها فقد الأحبة، يُعتبر أضخم سجن في السماوة، ولربما في كل العراق، حيث سُجن فيه مئات الآلاف من المعارضين للدولة البعثية من جميع فئات المجتمع، ولا سيما الكورد، وتم فيه إعدام مئات الآلاف من جميع شرائح المجتمع. فكان فعلاً اسماً على مسمى، فالـ(نگرة) معناها «حفرة» لا يخرج منها الإنسان إلا بمعجزة إلهية، حيث يواجه النزيل فيها أبشع طرق التعذيب والتجويع والتخويف والغربة وحتى طريقة الإعدام تكون بوحشية مرعبة. وتوجد في جدرانه الكثير من الذكريات والأشعار والصور تركها النزلاء الذين منهم من قُتِل ومنهم من نجا وظلت ذكرياتهم تشير إلى الظلم الذي تعرضوا له من قبل النظام البعثي الدموي
قال المواطن الكوردي نوزاد توفيق حسين حسن وهو من المهجرين إلى السماوة في لقاء مع «كوردستان بالعربي» إنه «قبل خمسين عاماً، تم تهجيرنا من السليمانية إلى السماوة مع مئات الآلاف، وتم إنزالنا في سجن نگرة السلمان حيث واجهنا حينها أنواع العذابات من جميع النواحي وواجه العديد منا القتل والتنكيل من قبل حكومة النظام. وبعدها تم نقل بعضنا إلى المدارس والدوائر الحكومية. وقد واجهنا في بداية الأمر بعض المشاكل مع أبناء السماوة، لكن بعد أن عرفونا عن قرب ولامسوا أخلاقنا، أصبح الوئام الطابع العام معنا، وبدأنا بعدها بشراء المحال والأعمال الحرة والتجارة حتى استتب وضعنا». وحسب ما أشار نوزاد أيضاً، أنه هو وعائلته «لم يقبضوا درهماً من التعويضات من قبل الحكومة ما بعد 2003 وإلى الآن»، ويعتقد أن لا أحد من الذين تم تسفيرهم إلى السماوة حصل على تعويضات.
شارع الأكراد
نال أحد شوارع السماوة في منطقة الإسكان اسم «شارع الأكراد» لسكن العوائل الكوردية فيه، وظل هذا الشارع يحمل هذا الاسم إلى ما بعد 2003، فاختفى الاسم بسبب انتقال كثير من العوائل الأخرى غير الكوردية إلى مناطق متفرقة، ومن العوائل الكوردية من عاد إلى السليمانية ولم يتبقَ إلا بيتين لعائلتين كورديتين.
الثقافة القومية للكورد في السماوة
رغم مدة نصف قرن من تهجير الكورد إلى السماوة في بيئة تتحدث العربية وبعيدة جغرافياً عن كوردستان، ورغم كل ما عانوه من خوف وملاحقات وعناء، لكنهم لا يزالون يتحدثون اللغة الكوردية ويمارسون ثقافتهم القومية. وإن سمعة الكورد في السماوة محببة لدى المحيط العام بهم، وهذا شيء مُلاحظ على الكورد في كل العراق.
الوجود العشائري في السماوة
لا وجودَ عشائرياً واضحاً بين الكورد في السماوة، بل هناك عوائل قرابة 2000 بيت، كُلٌّ يحمل اسم عشيرة معينة. لكن ليس لها شيخ عشيرة كما هو متعارف، بل يُعرفون بأنهم من العشيرة الكوردية المنسوبين إليها ويتم التعامل عشائرياً معهم على هذا النحو، ومن العشائر الموجودة هناك «البرزنجي، والجاف، وهماوند والكسنزانية، وأبرزهم عشيرة الجاف».
الزيجات مع القوميات الأخرى
الكورد في السماوة أصبح لهم ترابط وثيق مع العرب، إذ تمت زيجات فيما بينهم، فتجد كثيراً من الكورد متزوجين من عربيات أو بالعكس كذلك. وهذا الترابط شكّل نسيجاً اجتماعياً متنوعاً تسوده الألفة والتماسك واحترام الجميع لبعضهم البعض ولهوية الآخر وهي صورة إنسانية ناصعة.
جميع الذين تم تسفيرهم إلى السماوة من الكورد، شأنهم شأن كل فئة مظلومة تعرضت لوحشية النظام البعثي الظالم، لهم الحق في الحصول على حقوقهم المشروعة تماشياً مع أقرانهم. وضمن تحقيق «كوردستان بالعربي» معهم، وردتنا مطالبات عديدة منهم بإجراء متابعة جادة للحصول على الحقوق والتعويضات الخاصة بهم.
حسين جنكير: شاعر وكاتب مسرحي