شهدت بدايات القرن العشرين موجة من التغييرات السياسية في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما بعد سقوط الدولة العثمانية وبروز الدول القومية الحديثة. وفي خضم هذه التحولات، نشأت العديد من الجمعيات الكوردية التي هدفت إلى حماية الهوية القومية للكورد والدفاع عن حقوقهم الثقافية والسياسية والاجتماعية. وقد تميزت تلك الجمعيات بالتنوع بين النشاط السري العابر للحدود والتنظيم العلني الخيري والثقافي. ومن بين هذه الجمعيات، برزت جمعية «خويبوون» كإحدى المبادرات التنظيمية المهمة التي جمعت بين العمل الاجتماعي والوعي القومي.
نشأة جمعية «خويبوون»:
تأسست جمعية «خويبوون» في ثلاثينات القرن العشرين في سياق تصاعد الوعي القومي الكوردي، وظهور الحاجة إلى تنظيم ينسق الجهود الثقافية والاجتماعية والسياسية. وتشير الوثائق والبيانات المحفوظة في الأرشيف إلى أن هذه الجمعية كانت تهدف إلى تحقيق الأهداف الآتية:
وقد اختير اسم (خويبوون) وترجمتها العربية (الانبعاث) أو (استمرارية الحياة).
وبعد أن بينا مقدمة إجمالية عن الجمعية نحاول أن نسلط الضوء على ملف يحتفظ به مركز النجف الأشرف للتأليف والتوثيق والنشر من ضمن ملفات حول كوردستان العراق (الكورد)، والذي محوره جمعية «خويبوون»، وسوف ندرس الأمور المهمة التي احتوى عليها هذا الملف.
مواصفات الوثيقة:
المكان: مركز النجف الأشرف للتأليف والتوثيق والنشر.
الموضوع: جمعية «خويبوون» الكوردية.
الملف: ضمن ملفات كوردستان العراق.
رقم الملف: 41 / 66.
عدد الصفحات: 26.
اللغة: العربية، والكوردية.
المحاور الرئيسية للوثيقة:
- الدعوة إلى الوحدة التنظيمية:
- تنظيم العمل الثقافي:
- العلاقات مع الفاعلين المحليين:
- تعزيز السلم الاجتماعي:
- التأكيد على السرية:
دراسة للملف:
جاء في الصفحة الثانية من الملف المؤرخ بـ26 تموز 1938، وزارة الداخلية / الموضوع الأخبار السرية:
«بلغنا أن اللجنة الإجرائية لجمعية «خويبوون» الكوردية عقدت مؤتمرين في سوريا، وتذاكرت عن التمرد الحالي في درسيم، وقررت أخيراً مساعدة القائمين بالثورة الكوردية في تلك المنطقة، وأرسلت نداء حاراً إلى كافة الأكراد المقيمين في سوريا والعراق وإيران وتركيا تحثهم على إسداء المساعدة لهم مادياً ومعنوياً ليتمكنوا من إحراز النصر وبناء الجذر الأساسي لاستقلالهم في المستقبل».
والذي وقع على هذا النداء حاجو آغا وجلادت بدرخان وثريا بدرخان وممدوح سليم.
ويظهر من هذا النص أن هذه الجمعية عابرة للحدود تجمع الكورد كله في المنطقة. وكما سيظهر في الوثيقة أن هناك أعضاء من كورد العراق اشتركوا فيها، وسوف تُذكر أسماؤهم. وتهتم هذه الجمعية، بكل القضايا الكوردية، كما تشير إلى جمع التبرعات لكورد تركيا من كافة المناطق الكوردية. أما في ما يتعلق بالحدث، فموجز هذا الحدث هو درسيم (Dersim)، منطقة جبلية ذات أغلبية كوردية علوية تقع في شرق الأناضول (اليوم تُعرف بمحافظة تونجلي في تركيا). وعُرفت المنطقة عبر تاريخها بتمسكها بالحكم الذاتي القبلي، وبُعدها عن السلطة المركزية.
ومنذ تأسيس الجمهورية التركية (1923)، بدأت سياسات مركزية شديدة لفرض «الهوية التركية» على جميع القوميات. فبدأ تحرك الكورد ضد السلطة التركية، وبدأ العصيان المسلح بشكل واسع في ربيع 1937 بعد محاولة القبائل مقاومة انتشار السلطة المركزية، واستمر القتال حتى صيف 1938. وكان قائد التمرد الأبرز سيد رضا (Seyid Rıza) وهو زعيم قبلي وعلوي له نفوذ واسع.
فالجمعية التي ذكرناها اتخذت قراراً بمساعدة الكورد، كما هو مبيّن في هذه الوثيقة.
وفي الصفحة السابعة من هذه الملف، توضح الوثيقة أن هناك أشخاصاً من كورد العراق قد انضموا إلى هذه الجمعية ويدفعون اشتراكات، ويحاولون فتح فرع لها داخل العراق، كما سنشير إلى ذلك بعد أن نستعرض نص الوثيقة:
(متصرف لواء السليمانية
قلم التحرير
العدد: 130
التاريخ: 23/6/1938م
سري للغاية
إلى وزارة الداخلية
بغداد
الموضوع: جمعية اتحاد بلاد الأكراد
إشارةً إلى كتابكم المرقم 1901 والمؤرخ في 5/6/1938، ندرج طياً صورة كتاب مدير شرطة لواء السليمانية المرقم 361 والمؤرخ في 19/6/1938 المتضمن نتائج تحقيقاته حول الموضوع، راجين التفضل باتخاذ ما ترونه مناسباً بشأن ذلك.
توقيع
متصرف لواء السليمانية
صورة الكتاب
إشارةً إلى كتابكم المرقم 112 والمؤرخ في 5/6/1938.
لقد أظهر التحقيق بأن رشدي إبراهيم، المستخدَم حالياً في أمانة العاصمة، ورفيقه محمد خورشيد، المستخدَم في دائرة الأشغال في المنطقة الوسطى بديالى، ينتميان إلى جمعية «خويبوون» الكوردية منذ مدة طويلة، كما أن الضابط المتقاعد المدعو كريم محمود الملقب بكريم شالوم المستخدم الآن بصفة مهندس في كركوك ونجيب بن الملا حسن المستخدم في الآن الحاضر مأمور مخزن في دائرة أشغال السليمانية ينتميان إلى الجمعية المذكورة. ولقد ظهر من التحقيق أن رئيس هذه الجمعية هو الدكتور شكري محمد المقيم في بغداد وأن الدكتور آميرزا الأرمني الساكن في بغداد أيضاً، والذي له محل للعيادة مقابل جسر مود هو الذي يمد هذه الجمعية بالدراهم، ويتصل بهم. ولما كانت هذه الجمعية قد تشكلت منذ سنين بطريقة سرية وبدون أن تستحصل على رخصة لتشكيلها........).
وإذا سلطنا الضوء على هذه الوثيقة التي هي من ضمن الملف، فإنها صادرة عن متصرف لواء السليمانية بتاريخ 23/6/1938، موجهة إلى وزارة الداخلية العراقية، وتحمل طابع (سري للغاية).
تتعلق الوثيقة بجمعية كوردية سرية تحمل اسم جمعية اتحاد بلاد الأكراد أو جمعية «خويبوون».
الوثيقة ترفق نتائج التحقيقات الأمنية التي جرت حول نشاط هذه الجمعية وتحركات أعضائها، وقد تضمنت نقاطاً رئيسية:
الشخصيات المحورية:
رشدي إبراهيم: مقيم حالياً في بغداد، يقوم بالدعاية للجمعية.
محمد خورشيد: صديقه وشريكه في النشاط.
كريم محمود (كريم شالوم): ضابط متقاعد مقيم في كركوك.
الدكتور (آرميزا الأرمني): طبيب معروف مقيم في بغداد، تردد على اجتماعاتهم.
الأنشطة:
الجمعية تعمل سراً تحت غطاء جمعية خيرية، من دون ترخيص رسمي.
نشاطها يتضمن الترويج للأفكار القومية الكوردية.
وفي مقام الاستنتاج نقول:
الوثيقة تكشف مدى حساسية النشاط القومي الكوردي في العراق الملكي أواخر الثلاثينات.
وتعتبر السلطات هذه الجمعية تهديداً للأمن القومي، حتى وإن لم تكن نشاطاتها واضحة تماماً.
تتخذ الجمعية مظهر جمعية خيرية لتجنب الملاحقة القانونية.
وهذا الأسلوب كان شائعاً لدى الحركات القومية السرية في تلك الفترة.
وفي ص 11 يوجد في الملف صورة الوصل الذي وثق التبرع.
ومن ص 13 إلى نهاية الملف، توجد معلومات مهمة جداً عن هذه الجمعية وعلاقاتها ونشاطاتها، وسوف نركز على بعض الجوانب. ومن أراد التوسع، فعليه مراجعة الملف الكامل المحفوظ في مركز النجف الأشرف للتأليف والتوثيق والنشر.
وإليك مقتطفات من التقرير عن الجمعية في هذه الوثيقة.
«جمعية الخويبوون الكوردية...غاياتها وأعمالها»
الجمعية الكوردية - الأرمنية (ذُكرت «الأرمنية» في الوثيقة لأن كثيراً من الأرمنيين انتسبوا إليها) المدعوة «خويبوون» أو جمعية الاستقلال الكوردية التي تقوم مقام المجلس الأعلى للشعب الكوردي....... وتذكر الوثيقة معارضة بعض البلدان لها وأسماء مؤسسيها، وغير ذلك من التفاصيل.
وبعد ذلك يذكر التقرير فروع الجمعية في أمريكا وتبريز، وأهدافها.
ثم يذكر التقرير أنه قدم بغداد الأستاذ جلادت علي بدرخان زعيم جمعية «خويبوون» في شهر حزيران 1938 قاصداً فتح فرع في بغداد وكوردستان، وتواجه مع الدكتور شكري محمد الذي عُثر في داره على مناشير من جمعية «خويبوون» تحث الكورد على الانتقام من الأتراك، وقد غادر إلى إيران.
وقد عثر في السليمانية على منهاج جمعية «خويبوون» ومنشور يحث الكورد الوطنيين على الانتماء إلى الجمعية، وكان المنشور موقعاً من قبل الشيخ محمود.
وقد ظهر بأنه قد تشكلت في الموصل جمعية باسم «كوملي پشتواني كوردان» أي (جمعية الدفاع عن الكورد) ومقصدها نيل حقوق الكورد الوطنية والسياسية والاقتصادية، وبما أن منهاجها يماثل منهاج الخويبون فمن المحتمل أن «كوملي پشتواني كوردان» هي فرع الجمعية العمومية المعروفة باسم «خويبوون».
إلى آخر التقرير.
ومن أراد الاطلاع على التقرير بالكامل والوثائق عليه مراجعة مركز النجف الأشرف للتأليف والتوثيق والنشر.
الفوائد المستفادة من دراسة هذه الوثيقة:
في ضوء ما تقدّم، يتبيّن أن جمعية «خويبوون» الكوردية تمثل مرحلة مبكرة ونموذجاً متقدماً في العمل القومي المنظّم للأكراد، اتسمت بنشاط عابر للحدود، واستندت إلى رؤية ثقافية وسياسية واضحة.
وتكشف الوثائق المحفوظة في مركز النجف الأشرف للتأليف والتوثيق والنشر عن تفاصيل دقيقة لآليات عمل الجمعية وأهدافها، كما تبرز مدى يقظة السلطات العراقية ورصدها الدقيق لهذه التحركات.
وإذ يتيح هذا الملف إضاءات ثمينة على تاريخ الحركة القومية الكوردية، فإنه يفتح أبواباً جديدة لدراسة دور الجمعيات السرية والعلنية في صوغ الهويات القومية في الشرق الأوسط في القرن العشرين.
لذلك يُعدّ هذا الملف وثيقة تاريخية مهمة، لا غنى عنها للباحثين في قضايا القومية الكوردية وتاريخ العراق السياسي والاجتماعي.
الشيخ محمد الكرباسي
مؤسس ورئيس مركز النجف الأشرف للتأليف والتوثيق والنشر