اللغة العربية وأثرها في الأدب الكوردي
اللغة العربية وأثرها في الأدب الكوردي
November 15, 2025

مع دخول الإسلام إلى مناطق الكورد في بدايات القرن الأول الهجري، اعتنق الكثير من الكورد هذا الدين، وبما أن اللغة العربية كانت وعاء الإسلام ولغة طقوسه الدينية، أصبح تعلمها ضرورة لأداء الشعائر والصلوات وقراءة القرآن الكريم وحفظه. وهكذا ارتبط انتشار الإسلام في أي بقعة من العالم بانتشار اللغة العربية معها.

وعلى مدى قرون طويلة، تشكلت علاقة متينة بين اللغتين العربية والكوردية، حيث استفادت الكوردية من العربية استفادة جمة، في مشهد يعكس عمق الاندماج الثقافي بين الشعبين الجارين العربي والكوردي، اندماج ما زالت ملامحه حاضرة حتى يومنا هذا.

للأسف، ليست لدينا، حسب ما يتوفر من مصادر موثوقة، نصوص أدبية كوردية تعود إلى ذلك العهد المبكر من تاريخ الكورد خلال العهد الإسلامي ولا نعرف بالضبط الشكل الذي كانت عليه اللغة الكوردية ومدى تأثرها باللغات الأخرى وخاصة العربية. ولعل من الإشارات المدونة الأولى إلى اللغة الكوردية واستقلاليتها عن باقي اللغات ما ورد في الكتاب الشهير «شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام» للكاتب ابن وحشية النبطي من القرن الثالث عشر. 

يقول ابن وحشية واصفاً الأبجدية الكوردية، يسميها القلم الكوردي، ما يلي:

«القلم الكوردي وهو من الأقلام العجيبة والرسوم الغريبة، وقد رأيت في بغداد في ناووسٍ من هذا الخط نحو ثلاثين كتاباً، وكان عندي منها بالشام كتابَان: كتاب في إفلاح الكرم والنخيل، وكتاب في علل المياه وكيفية استخراجها من الأراضي المجهولة، فترجمتُهما من لسان الأكراد إلى اللسان العربي لينتفع به أبناء البشر». ولعل ابن وحشية النبطي يشير في هذا المقطع إلى كتابه الشهير الفلاحة النبطية.

ويرى ابن وحشية أن الكورد كانوا يحاولون مجاراة الكلدانيين في تعلم العلوم والصنائع فيقول: «وأما الكلدانيون فكانوا أعلم الناس في زمانهم بالعلوم والمعارف والحُكم والصنايع، وكان الأكراد يريدون مناظرتهم ومماثلتهم».

للأسف الشديد لم تحفظ لنا السجلات أي مخطوط قديم من المخطوطات التي يتحدث عنها ابن وحشية ومن الواضح أن الأبجدية الكوردية التي يشير إليها انقرضت حالها حال الأبجدية التي كان يكتب بها الفرس لصالح الأبجدية العربية الجديدة التي جاءت مع الإسلام.

وكان من الطبيعي أن تتأثر لغات المنطقة بلغة الدين الجديد ومصطلحاته الدينية والمجتمعية. ومع حملة التعريب الكبرى في زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان تراجعت لغات المنطقة وتركت الساحة للغة العربية التي أصبحت لغة الإمبراطورية العربية الإسلامية الحديثة فضلاً عن كونها لغة الدين الإسلامي. وعاماً بعد عام دخلت المفردات العربية إلى اللغة الكوردية (والفارسية بالطبع) واستأنس بها الكورد. وبينما بقيت بعض المفردات العربية على حالها من دون تغيير، تعرضت مفردات أخرى إلى التكريد بنسب متفاوتة حتى أن بعض الكلمات تغيرت كلياً بحيث بات التعرف على أصلها العربي صعباً. 

ولا يخفى أن التأثير اللغوي لم يكن وحيد الاتجاه، فعلى الرغم من أن اللغة العربية كانت مهيمنة وكانت اللغة الرسمية الوحيدة في الدولة إلا أنها لم تسلم من تأثير لغات شعوب المنطقة وخاصة الفارسية في مجالات كثيرة ليس هنا مجالها.

لم يصل إلينا من القرون الإسلامية الأولى نصوص أدبية كوردية للأسف. وهكذا فإن الباحث في تأثر الكوردية باللغة العربية لن يستطيع تلمس آثار هذه اللغة وتدرجها. لكننا حين نصل إلى مرحلة ازدهار الثقافة الكوردية في القرن السادس عشر نجد طغيان اللغة العربية وهذا الكم الهائل من المفردات العربية التي دخلت إلى الأدب الكوردي. وهذه ظاهرة لافتة للانتباه، فالذين كتبوا الشعر الكلاسيكي الكوردي اعتباراً من الشاعر العظيم «ملايى جزيري» (الملا الجزري) (1570 - 1640) كانت ثقافتهم على الأغلب فارسية عربية. وأدخلوا المصطلحات الفلسفية والدينية إلى شعرهم من دون تغيير تقريباً. وهكذا نجد في شعر الجزري كمية هائلة من المفردات العربية مثل العدم والوجود، والذات، والعشق، والفناء، والنور، إلخ..

إن غزارة مفردات القاموس العربي في شعر الكلاسيكيين الكورد الأوائل يدل على مدى التأثير القوي جداً للثقافة العربية الإسلامية، هذا التأثير الذي لم يسلم منه أي شعب اعتنق الإسلام فيما بعد. 

وفي هذا البيت الذي أختاره عشوائياً من ديوان ملايى جزيري نجد مدى هيمنة اللغة العربية على لغة الشعر الكوردي في ذلك الوقت:

ميم مطلعا شمسا أَحَد، آيينه صفت كر

لامع ژ عرب برق لفخارى عجم دا

(المعنى: إن الميم، يقصد النبي محمد، مطلع شمس الذات الإلهية، أثر مثلما تؤثر المرآة. حيث لمع بين العرب وأضاء بسناه فخارَ العجم). 

وكذلك الأمر مع تحفة مم وزين التي ألفها الشاعر والمفكر القومي الكوردي الكبير أحمد خاني في نهاية القرن السابع عشر. فقد عجت تلك الملحمة بكلمات عربية من علم الفلك والمنطق والطب والموسيقى والفلسفة والفقه. وقد أكد أحمد خاني بنفسه أنه ركب لغة كتابه من مزيج من اللغات العربية والفارسية والكوردية. 

وبطبيعة الحال لا تعني هذه الظاهرة ضعفَ اللغة الكوردية أو فقر قاموسها. بل الموضوع يتعلق بعدم وجود سياسة لغوية واضحة لدى المثقف الكوردي ولا لدى السلطات الكوردية في تلك العصور. كذلك فإن غياب التدوين النثري باللغة الكوردية أدى إلى غياب مصطلحات فلسفية وعلمية من اللغة الكوردية. وبينما انكب الناس عرباً وعجماً على خدمة اللغة العربية فقد أهملوا لغاتهم الأصلية. وتشير مقدمة مم وزين إشارة إلى إهمال اللغة الكوردية وعدم الالتفات إليها. لقد كان الأدب الكوردي منحصراً في الشعر ولم يظهر النثر إلا بشكل متأخر خاصة على يد عالم الاجتماع الشهير ملا محمود بايزيدي (1797 - 1859). والنثر كما لا يخفى هو المختبر الذي تصقل فيه اللغات وتتطور. 

وامتدت هذه الظاهرة إلى الأدب الكوردي المدون بالكرمانجية الوسطى. فظهرت دواوين شعراء كبار مثل نالي (1800 - 1856) وسالم (1805 - 1869) وكوردي (1812 - 1850) وغيرهم وكانت لا تخلو من كلمات عربية كثيرة زين بها أولئك الشعراء قصائدهم.

ومنذ بدايات القرن العشرين، شهدت النصوص الكوردية تراجعاً ملحوظاً في نسبة الكلمات العربية مقارنةً بالمراحل السابقة. وقد لعبت الصحافة الكوردية الناشئة، منذ أواخر القرن التاسع عشر، دوراً محورياً في إرساء أسس التطوير اللغوي، إلى جانب إسهامات الشعراء والأدباء الكورد في القرن العشرين في صياغة لغة أقرب إلى النقاء، حتى وصلت إلى ما نعرفه اليوم.

وفي الوقت نفسه، تواصل معاهد اللغة الكوردية في كوردستان وخارجها جهودها لابتكار مصطلحات جديدة تلبي احتياجات الكتّاب والمفكرين، بينما تعكس حركة ترجمة مؤلفات الفلسفة والعلوم ملامح تحوّل عميق يجعل اللغة الكوردية أكثر استقلالاً وثراءً مما كانت عليه في مطلع القرن الماضي.


جان دوست

كاتب وروائي كوردي



X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved