العالم الهولندي مارتن فان بروينيسن (Martin Van Bruinessen) أحد أبرز الأكاديميين الغربيين المختصين في الثقافة الإسلامية والكوردية. عطاؤه العلمي متعدد الأوجه، فهو:
يبرز اسمه خاصة كمختص في دراسة التصوف الكوردي والطريقة النقشبندية وتأثير مولانا خالد النقشبندي (1779 - 1827) في تاريخ التصوف الإسلامي.
المسار الأكاديمي والاهتمام بالقضية الكوردية
وُلد مارتن فان بروينيسن عام 1946، وهو أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة أوتريخت الهولندية. بدأ اهتمامه بالقضية الكوردية في أواخر الستينات من القرن الماضي، حيث كان طالباً للرياضيات يحب السفر إلى الشرق الأوسط.
وكما يروي في مقابلة أُجريت معه، فإن نقطة التحول الحاسمة في مساره الأكاديمي جاءت عندما علم بمحاكمة الأكاديمي التركي إسماعيل بيشكجي الذي حُكم عليه بالسجن 13 سنة بسبب تأليفه كتاباً سوسيولوجياً عن الكورد. هذا الحدث دفعه للتفكير: «إذا ما دخل المرء السجن بسبب كتابة كتاب عن الكورد، فلا بُد أنه شيءٌ مهم أن تكتب عن الكورد».
أجرى بروينيسن دراساته الميدانية في إيران والعراق وتركيا وسوريا بين عامي 1972 و1978، رغم الصعوبات الكبيرة التي واجهها من السلطات الحكومية. هذه التجربة الميدانية المكثفة مكّنته من فهم عميق للبنى الاجتماعية والسياسية في المجتمعات الكوردية، التي تُوّجت بكتابه الأساسي «الآغا والشيخ والدولة: البنى الاجتماعية والسياسية في كوردستان» (1978).
شهادة من كوردستان 1975
في مقابلة صحفية معه حول بداية أبحاثه في المناطق الكوردية في إيران يقول: «في أثناء التنقل قابلتُ بعض الكورد من كوردستان العراق. حينئذٍ بدأت الحرب (بين الكورد والسلطة في بغداد - 1974)، وكان هناك لاجئون في المنطقة، ولكن أيضاً الكثير من البيشمركة في حالة ترحال. وعندما شرحتُ لهم ما أنا بصدده كانوا يقولون: لماذا لا تأتي إلى كوردستان العراق؟ لدينا مناطق محررة حيث لا تستطيع الحكومة أن تطلب منك عدم البقاء».
وأضاف بروينيسن أنه «كان لدى الكورد العراقيين مكتب في طهران، لذلك عندما ذهبت إلى طهران مرة أخرى، ذهبت إلى ذلك المكتب ومنحوني إذناً للقيام بالبحث. وأُجبرت على ترك كوردستان العراق.. وأتذكر أنه في نوروز 1975 كان ينبغي علينا أن نغادر لأن الكورد قد أوقفوا النضال. لقد تخلى عنهم شاه إيران والأمريكيون أيضاً. كانت القوات الإيرانية قد انسحبت وقطعت كل مساعداتها. فكان على الكورد الاستسلام. حوالي 50 ألف شخص قد فرّوا إلى إيران، وكنتُ واحداً منهم».
مولانا خالد النقشبندي... السياق التاريخي والديني
وُلد مولانا خالد النقشبندي عام 1779 في منطقة قرەداغ قرب السليمانية في كوردستان العراق، وتوفي عام 1827 في دمشق. يُعتبر من أهم المجددين في الطريقة النقشبندية، حيث أسس الفرع المعروف ب«الخالدية» نسبة إليه. درس في السليمانية ثم رحل إلى الهند حيث تلقى الإجازة من الشيخ عبد الله الدهلوي، قبل أن يعود لينشر تعاليمه في كوردستان والعراق وبلاد الشام.
أسس مولانا خالد شبكة واسعة من المريدين والخلفاء امتدت من الأناضول إلى العراق ومن الشام إلى إيران، مما جعل الطريقة الخالدية من أكثر الطرق الصوفية انتشاراً في المنطقة خلال القرن التاسع عشر وما بعده.
رؤية العالم الهولندي للبعد الكوردي والعالمي لمولانا خالد
يؤكد بروينيسن في دراساته أن الهوية الكوردية لمولانا خالد لم تكن مجرد حقيقة جغرافية، بل شكلت عنصراً محورياً في تكوين شخصيته الروحية وانتشار طريقته. فانطلاقته من كوردستان منحته شرعية مميزة في بيئته القومية، إذ اعتُبر رمزاً دينياً كوردياً جمع بين المعرفة الشرعية والروحانية الصوفية.
ويلفت بروينيسن الانتباه إلى أن مولانا خالد استطاع أن يحول السليمانية وأي مكان حل فيه إلى مركز إشعاع روحي وعلمي، ليس فقط على المستوى المحلي، بل على نطاق الإمبراطورية العثمانية والعالم الإسلامي. هذا التحول جعل من السليمانية وبقية المدن مثل بغداد ودمشق نقطة تواصل بين التصوف الكوردي والفضاء الإسلامي الأوسع.
شبكات الخالدية والتأثير العابر للحدود
يُبرز بروينيسن كيف أن الطريقة الخالدية تجاوزت الحدود الإثنية والجغرافية، فوصلت إلى الأناضول وبلاد الشام وإيران. وهذا الانتشار الواسع جعل الطريقة جسراً بين الهوية الكوردية والروحانية الإسلامية العالمية. وقد أدى هذا التوسع إلى تشكيل شبكات معقدة من المريدين والخلفاء الذين حافظوا على التواصل مع المركز في السليمانية .
العلاقة بين الصوفية والسياسة
ومن أهم إسهامات بروينيسن تسليطه الضوء على الدور السياسي للطرق الصوفية في كوردستان. فيشير إلى أن شبكة النقشبندية الخالدية لم تكن مجرد حركة روحية، بل لعبت أدواراً سياسية واجتماعية مهمة في مواجهة السلطات العثمانية والفارسية. هذا البعد السياسي للطريقة الخالدية يعكس الطبيعة المعقدة للعلاقة بين التصوف والسلطة في المجتمعات الكوردية التقليدية.
منهجية مارتن فان بروينيسن في الدراسة
يتميز بروينيسن بمقاربته الأنثروبولوجية التي تجمع بين الدراسة التاريخية والتحليل الاجتماعي. فهو لا يكتفي بدراسة النصوص الدينية والتاريخية، بل يعتمد على الدراسة الميدانية والمقابلات مع أتباع الطريقة المعاصرين. هذه المنهجية مكّنته من فهم كيفية استمرار تأثير مولانا خالد في المجتمعات الكوردية المعاصرة.
يحرص بروينيسن على تحقيق التوازن بين دراسة الجذور المحلية الكوردية لمولانا خالد وتأثيره العالمي. فهو يؤكد أن فهم شخصية مولانا خالد يتطلب إدراك كيفية تفاعل الهوية الكوردية مع التقاليد الصوفية الإسلامية الأوسع.
لا يتردد بروينيسن في توجيه النقد البناء للروايات التقليدية حول مولانا خالد، خاصة تلك التي تبالغ في الطابع الأسطوري لشخصيته. ويسعى إلى تقديم صورة متوازنة تجمع بين التقدير للإنجاز الروحي والتحليل النقدي للسياق التاريخي والاجتماعي. وأيضاً بين الخصوصية الكوردية وفهم التأثير الإسلامي العام لمولانا خالد، فقدم تحليلاً نقدياً متوازناً يتجنب كلاً من التبسيط المفرط والتعقيد الأكاديمي غير المبرر.
الملاحظات النقدية
ورغم أهمية إسهامات بروينيسن، يمكن توجيه بعض الملاحظات النقدية له. فإنه، لكونه باحثاً غربياً، قد يفوت بروينيسن أحياناً بعض الجوانب الدقيقة في الثقافة الكوردية المحلية، وأحياناً قد يطغى التحليل السياسي على الأبعاد الروحية والدينية الصرفة.
الاستقبال الإيجابي في الأوساط الكوردية
لقيت دراسات بروينيسن استقبالاً إيجابياً واسعاً في الأوساط الأكاديمية والثقافية الكوردية. فقد تُرجمت أعماله إلى اللغة الكوردية (السورانية) والعربية، ونُشرت في طبعات محلية في السليمانية وبغداد. كما شارك بروينيسن في مؤتمرات علمية في السليمانية عامي 2009 و2023 حول مولانا خالد، حيث التقى بالباحثين المحليين وتبادل معهم الخبرات.
ويُذكر أن بروينيسن يكن احتراماً كبيراً للباحثين الكورد المحليين، ويؤكد أهمية أن يستطيع الناس الذين يكتب عنهم قراءة ما كتبه عنهم وانتقاده. هذا النهج التشاركي جعل من أعماله مرجعاً مهماً للباحثين الكورد أنفسهم.
مخطوطة بخط يد مولانا في أربيل :
شاهد على لقاءين تاريخيين مع مارتن فان بروينيسن
في عام 2009 عندما تبنّى البروفيسور د. هلكوت حكيم، أستاذ في قسم التاريخ بجامعة السوربون في باريس، فكرة إقامة مهرجان مولانا خالد العالمى ودعمتها السيدة هيرو عقيلة الرئيس العراقي والزعيم الكوردي الراحل جلال طالباني.
وبعد مشاركتي بكلمة عن أحد آثار مولانا خالد النقشبندي التي تم الاحتفاظ بها في مكتبة والدي (رشاد المفتي 1915 - 1992)، تعرّفت على الباحث الهولندي مارتن فان بروينيسن وأبدى إعجابه بالمخطوطة وختم مولانا، والباحث الهولندي يتحدث بلغات عديدة منها الكوردية، لكننا تبادلنا الحديث باللغة الهولندية الأمر الذي أضاف لمسات مودة إلى أحاديثنا.
لمس مارتن صفحات المخطوطة التي كانت بحوزتي وتمعّن في خط يد مولانا خالد فقد كتب مولانا بخط يده بأنه كوردي ومن منطقة شهرزور.
الأهمية التاريخية للمخطوطة والنص
يتمثل هذا الأثر في كتاب «فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني» الذي يحتوي على 1256 صفحة. وتكمن أهمية هذا الكتاب في:
«كيف أقول دخل في ملكي والملك لله الواحد القهار، وأنا الحقير الفقير خالد الكوردي الشهرزوري، وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين والحمد لله رب العالمين» وهذا تأكيد من مولانا على هويته الكوردية، وإثبات انتمائه لمنطقة شهرزور في كوردستان، وإظهار تواضعه وورعه .
ختم مولانا خالد نُقش عليه «العبد الشاكر لله خالد، تاريخ الختم: 1223 هجري (1808 ميلادي) إلى جانب وجود آثار تقبيل المريدين للصفحة حول الختم)
جمعنا مولانا مرة أخرى
بعد مرور 14 عاماً على المؤتمر الأول، عقد مؤتمر عالمي في آذار عام 2023 حول آثار مولانا خالد النقشبندي، فتجدّد لقاؤنا مرة أخرى مع العالم الهولندي الذي أبدى ارتياحه من وجود هذا الاهتمام بتراث مولانا خالد النقشبندي هذا المتصوف الكوردي الذي لمع اسمه في معظم بلدان العالم.
المتصوفون في إندونيسیا یطلقون اسم الكورد على أولادهم
يقول العالم الهولندي إنه ذهب إلى إندونيسيا وبقي هناك عشر سنوات وإنه وجد نفسه يهتم كثيراً بالطرق الصوفية في كوردستان وأدوارها السياسية، «ووجدتُ الطرق الصوفية ذاتها في إندونيسيا. إضافة إلى ذلك وجدتُ تأثيراً كوردياً غير مباشر على الإسلام في إندونيسيا، وخاصة فيما يخص التصوف متجذراً بمولانا مجدد الطريقة النقشبندية رغم عدم ذهاب أي كوردي إلى هناك. وكان الإندونيسيون والكورد يلتقون في مكة والمدينة. في الماضي كان الكثير من الإندونيسيين يدرسون على يد مدّرسين أكراد. والإندونيسيون يربطون الكورد بالإسلام. ويطلقون الآن اسم «كوردي» على الرجال في العائلات التقية».
نبذة عن مارتن فان برونيسين
وُلد براونيسين عام 1946 في هولندا. تخرج بامتياز من جامعة أوتريخت عام 1971 في الفيزياء والرياضيات، ثم انتقل للأنثروبولوجيا الاجتماعية.
أجرى بحوثاً ميدانية بين الأكراد (1974 - 1976) في إيران والعراق وتركيا وسوريا، وحصل على الدكتوراه عام 1978 بأطروحة «آغا.. شيخ ودولة» عن التنظيم الاجتماعي الكوردي.
قضى 9 سنوات في إندونيسيا (من 1982) باحثاً في الإسلام الإندونيسي، وأصدر مؤلفات مهمة منها «الطريقة النقشبندية في إندونيسيا» (1992) و«نهضة العلماء» (1994).
عمل أستاذاً للدراسات الكوردية والتركية بجامعة أوتريخت (1994 - 2011)، وأصدر مجلدين عن الأكراد عام 2000. وتقاعد عام 2011 وواصل العمل كباحث زائر في سنغافورة.
وإلى جانب اللغات الأوروبية الغربية الرئيسية، يتقن فان برونيسين التركية والإندونيسية ويحاضر بهما، ويقرأ ويتحدث الكوردية والفارسية، ولديه معرفة سلبية بالعربية. لقد أتاح معظم أعماله الأكاديمية للناس الذين يتعامل معهم في شكل ترجمات إندونيسية وتركية وكوردية وفارسية وعربية.
إحسان رشاد المفتي
مستشار قانوني، باحث وكاتب