جمال بختيار.. رحلة تشكيلية بين الواقع والخيال
جمال بختيار.. رحلة تشكيلية بين الواقع والخيال
November 15, 2025

تظل ممارسة الرسم، مهما اختلفت الظروف والمرافئ، مساحة مفتوحة تتواصل فيها عناصر الخط واللون بلا حدود، تمنح الفنان قدرة فريدة على التعبير عن خياله، وتفعيل طاقته الإبداعية، وتمثل أداة لنقل أحداث الواقع بما فيها من أبعاد آنية ومستقبلية. وفي هذا السياق، تبرز تجربة الرسام الكوردي جمال بختيار (1925 – 2020) كإسهام مؤسس في تاريخ الفن التشكيلي الكوردي، لما تحمله من خصوصية زمنية ومكانية انعكست على إنتاجه الفني.

النشأة والبيئة التكوينية للفنان

نشأ بختيار في بيئة اجتماعية وسياسية محدودة الإمكانات، حيث هيمن التراث العقائدي والقيود الاجتماعية على المشهد الثقافي، ما شكل أفقاً محدوداً للتجريب الفني. هذا الواقع، إلى جانب القحط الفني، دفعه إلى البحث عن لغة تشكيلية جديدة، وكانت لوحاته نافذة للتعبير عن معاناته وأحلامه وتطلعات شعبه.

في المراحل الأولى، بدأ بختيار بتجريب الخط واللون كهواية فطرية، ثم تطورت هذه التجارب الأولية إلى مسار منظم، حيث شكلت اللوحة وسيلة للتنفيس النفسي والتعبير الاجتماعي والسياسي. سيرة الفنان، التي حملت طابعاً ثورياً مستمراً، عكست شعوره العميق بالغضب تجاه الظلم الاجتماعي والسياسي، كما أظهرت قدرة استثنائية على توظيف تجربته الشخصية لتشكيل لغة فنية متماسكة.

الواقعية والالتزام بالقضية في مسيرة فنية ممتدة

خلال وجوده في الوطن (1925 - 1976)، استخدم بختيار الوسائل المحدودة المتاحة له للتعبير عن الجمال الملهم من الطبيعة والأنثى، معتبراً إياهما رموزاً رومانسية مؤثرة في مخيلته الفنية. وقد انعكس انخراطه في نضال شعبه التحرري على أعماله بشكل واضح، إذ حملت لوحاته مفردات تجسد البطولات اليومية والمآسي الناجمة عن الصراع، مع ملاحظة أن أعماله المبكرة قد فقدت، وربما يصعب العثور عليها.

أما المرحلة الأهم جاءت بعد انتقاله إلى الولايات المتحدة (1976 - 2020)، حيث انفتح أمامه فضاء أوسع للنضج الفني، والتحق بسلك التعليم الأكاديمي ليصبح معلماً للرسم، محافظاً على جذوره الكوردية والتزامه بالواقعية الأكاديمية. هذه المرحلة مكنت بختيار من تطوير تقنياته وأساليبه، مع الاحتفاظ بالبعد المحلي في لوحاته، وتوسيع مداركه الفنية في سياق عالمي، بما يعكس التوازن بين الذاكرة الثقافية والتجربة الجديدة.

تمثل تجربة جمال بختيار إرثاً فنياً تأسيسياً للفن التشكيلي الكوردي، إذ استطاع أن يرسخ لغة تشكيلية متميزة تجمع بين الواقعية الأكاديمية، والالتزام بالقضية، والهوية الثقافية. لقد ترك أعماله أثراً مستداماً على الأجيال اللاحقة، مثبتاً مكانته بين الآباء المؤسسين للفن الكوردي الحديث، ومؤكداً أهمية ترسيخ عناصر ومكونات اللوحة مع تطوير الأساليب، ضمن إطار يربط المحلي بالمعايير الفنية العالمية.


طارق كاريزي

باحث وكاتب






X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved