بين تلال نينوى الهادئة، وفي قرية «نصيرية» الواقعة بين ناحيتي باعذرا والقوش، وعلى بُعد نحو 54 كيلومتراً شمال الموصل، تتجلّى واحدة من أعمق قصص التعايش الديني في العراق. هناك، حيث هجرت الصلوات كنيسة مار عوديشو منذ سنوات، بقيت الشموع مضاءة، والصليب مرفوعاً، والرموز المسيحية محفوظة، بفضل مواطن إيزيدي يُدعى وائل جيجو خديدة، الذي يواصل منذ أكثر من عشرين عاماً رعاية الكنيسة وكأنها من صلب عقيدته.
ورغم توقف القداديس، لا تزال الشموع تُضاء في أركان الكنيسة، ويظل الصليب الخشبي والرموز المسيحية الأخرى محفوظة بعناية، بفضل جهود وائل وعائلته التي توارثت هذه المهمة أباً عن جد. وائل، الذي يسير على خطى والديه، الذي يؤكد لمجلة «كوردستان بالعربي» في حديث خاص قائلاً بثقة: «سنواصل خدمة الكنيسة؛ لأنها جزء منا».
علاقة تاريخية متجذرة
منذ صغره، اعتاد وائل مرافقة والديه في تنظيف الكنيسة وحراستها. تعلم منهما احترام المقدسات. واليوم يواصل المهمة بالحماسة ذاتها، فيتفقد أركان الكنيسة، وينظف الصور، ويتأكد من سلامة الرموز الدينية كما لو كان داخل معبد إيزيدي، إذ يخلع حذاءه قبل الدخول، ويتلمّس جدرانها ويُقبّلها تبركاً. وائل لا يتقاضى أي مقابل مادي، وينظف الكنيسة بمساعدة أفراد عائلته مرتين أسبوعياً، مواظباً على الحفاظ عليها كأنها مزار مقدس من ديانته، بحسب قوله.
ويؤكد خديدة أن العلاقة بين المسيحيين والإيزيديين في قرية نصيرية كانت دائماً ودية، مليئة بالزيارات والمناسبات المشتركة، سواء السعيدة أو الحزينة، «ما فرقنا لم يكن الدين، بل الظروف القاسية». ويتذكر كيف كانت القرية تضم ثلاث عائلات إيزيدية إلى جانب نحو ثلاثين عائلة مسيحية، قبل أن تبدأ الهجرة في السنوات بين 2012 و2015، حين غادر معظم المسيحيين إلى خارج العراق أو نزحوا إلى مناطق مثل بغداد والبصرة. ورغم غيابهم، لا تزال بعض الأسر تمتلك أراضي زراعية في القرية، وتعود لزيارتها سنوياً.
وتحمل كنيسة مار عوديشو اسم أحد أبرز القديسين في المسيحية الشرقية، ويعني اسمه بالآرامية «خادم الله» أو «حياة القديس». وتعود جذور هذه القرية المسيحية إلى القرن الرابع الميلادي، وكانت مأهولة بالكامل بالمسيحيين حتى عام 1942، حين دخلتها أول عائلة إيزيدية، رمو خديدة علي، واستُقبلوا من أهلها بحفاوة ظلت سارية حتى يومنا هذا. ومع مرور السنوات، تناقص عدد المسيحيين وازداد عدد الإيزيديين، غير أن روح التفاهم والاحترام لم تغب.
طقوس مشتركة ومكان للسكينة
ورغم غياب التراتيل منذ عام 2014، لا تزال الكنيسة تفتح أبوابها كل أحد وخلال المناسبات. ويعتبرها بعض الإيزيديين مكاناً للتبرك، مثل الطبيب نادر كورو، الذي يقول لمجلة «كوردستان بالعربي»، إنها «تمثل له موقعاً مقدساً يتلو فيه الأدعية، لا سيما في موسم قطف الزيتون، حيث تُعلّق الأشرطة الحمراء طلباً للبركة».
أما المعلمة المتقاعدة حياة يلدا، التي تنحدر من إحدى العائلات المسيحية القديمة في نصيرية، تتذكر كيف كانت عائلتها تتقاسم مفاتيح الكنيسة مع عائلة وائل حتى عام 1985، وتحتفظ بصورة قديمة للكنيسة تعود إلى ثلاثينات القرن الماضي، قبل أن تتوسع. وتمثل الكنيسة لها ذاكرة جماعية وهوية روحية لا يمكن التخلي عنها.
ويشير وائل إلى أن المسيحيين يزورون الكنيسة من مختلف مناطق العراق، ليس فقط خلال الأعياد، بل في أي وقت قائلاً: «يأتون ويشكروننا دائماً، ويقولون إنهم لا يعرفون كيف يكافئوننا... نحن نعامل بعضنا البعض كإخوة، لا يفرقنا الدين».
تراث يتوارثه الأبناء
بعد تحرير نينوى من تنظيم «داعش»، عاد بعض المسيحيين لزيارة كنيسة مار عوديشو، بينما واصل الإيزيديون الاهتمام بها، لتتحول العناية بها إلى تقليد عائلي، يتوارثه الأبناء عن الآباء. الشيخ درويش، أحد سكان القرية، يشير إلى أن أول إيزيدي سكن في نصيرية هو رمو خديدة علي عام 1942، ومنذ ذلك الحين، لم تسجل القرية أي خلافات تُذكر بين المسيحيين والإيزيديين. ويقول بابتسامة تختلط بالرضا: «المحبة كانت حاضرة دائماً، وخلافنا الوحيد كان على من يقطف الثمار أولاً».
ورغم أن نصيرية أصبحت قرية إيزيدية بالكامل اليوم، إلا أن الكنيسة لا تزال تمثل روح المكان، لا سيما في أوقات الصيام ومواسم الزيتون، حيث يصوم البعض طلباً لشفاعة مار عوديشو، ويجدون في الكنيسة مكاناً للسكينة والراحة النفسية.
حين يمتزج النور بين المعتقدات
وفي ليالي رمضان أو خلال صيام الخير، حين تضاء الشموع داخل الكنيسة، تمتزج أنوارها بقناديل المزارات الإيزيدية، في مشهد روحي فريد يعكس قدسية الأديان وتلاقيها على أرضية من الاحترام والتقدير. وتبقى قرية نصيرية وكنيستها شاهدتين على أن الإنسان، حين يؤمن بالسلام، يمكنه أن يصنع من الاختلاف مصدراً للجمال، لا للصراع.
ما يقوم به وائل جيجو خديدة، من اهتمام بكنيسة لا تنتمي لعقيدته، يعكس أرقى صور التعايش الديني في العراق. هذا الفعل الإنساني النبيل، المتوارث داخل عائلة إيزيدية، يُشكل درساً بليغاً في التسامح، ورسالة أمل تقول إن على هذه الأرض ما يستحق أن يُروى.
«أشعر ببهجة غامرة حين أزور الكنيسة؛ لأنها مكان مقدس للصلاة»، يقول وائل في ختام حديثه، ويضيف: «لا أرى فرقاً بين الذهاب إلى مزار لالش والدخول إلى الكنيسة، وأحيانًا، حين أشعر بالضيق، أذهب إليها، أصلي وأرتاح... إنها مكان للسكينة».