تمثل الثقافة الشعبية في كوردستان مرآةً لهوية هذا الشعب العريق، وجسراً يربط الماضي بالحاضر. فهي ليست مجرد أنماط من العادات والتقاليد، بل هي منظومة متكاملة من القيم والرموز والطقوس التي صاغتها الجغرافيا الجبلية، والتاريخ السياسي المعقد، والتنوع الإثني والديني. من خلال هذه الثقافة، يحافظ الكورد على ذاكرتهم الجمعية، ويجدون في تفاصيلها ملاذاً روحياً واجتماعياً.
يحظى الفلكلور الشفهي بمكانة مركزية في الثقافة الكوردية، وظل الشعر والغناء والحكايات وسيلة لنقل القيم والمعرفة عبر الأجيال. وتجسد القصص الشعبية مثل حكايات «مم وزين» لأحمدي خاني، أو حكايات العشق البطولي، قيم الوفاء والتضحية. وتعكس الأمثال الشعبية الحكمة المستخلصة من تجارب الناس اليومية، وتستعمل بكثرة في الأحاديث اليومية، وتحفظ الملاحم الشعرية التي يؤديها «الداستانجوان» (الرواة) ذاكرة الحروب والمقاومة والمعاناة.
الموسيقى والرقص
الموسيقى الكوردية جزء لا يتجزأ من هوية الشعب، وغالباً ما ترافقها آلات تقليدية مثل الطنبورة والزورنا والدُهُل. وتنقسم الأغاني بين أغاني الحب والحنين، وأغاني الفرح في الأعراس، وأخرى تعبر عن الشجاعة والفداء. أما الدبكات الكوردية (هەڵپەڕكێ) فتُعد طقساً اجتماعياً يرمز إلى الوحدة، حيث يتشابك الناس بالأيدي ويشكلون دائرة يخطون فيها بخطى متناغمة.
الأزياء التقليدية
الزي الكوردي يتميز بألوانه الزاهية وزخارفه اليدوية: الرجال يرتدون «شال وشبك» (سروال فضفاض مع قميص طويل وحزام عريض)، والنساء يلبسن أثواباً ملونة مطرزة، مع شالات حريرية أو ذهبية، وتكتمل الزينة بالمجوهرات الفضية أو الذهبية. ولا تمثّل هذه الملابس مجرد كساء، بل تعكس الانتماء العشائري والطبقي، وتُرتدى بكثرة في المناسبات القومية والدينية.
الأعياد والطقوس
يُعد عيد نوروز (21 آذار) أبرز الأعياد، فهو يرمز إلى الحرية وبداية الربيع، ويُحتفل به بإشعال النيران والرقص في الساحات. وبالطبع يحتفل الكورد المسلمون بعيدي الفطر والأضحى.
وتضم أعياد الأيزيديين: عيد «الأربعاء الأحمر» أو عيد «رأس السنة» في الأربعاء الأول من شهر نيسان الشرقي، وعيد «القربان» الذي يحل بالتزامن مع أول أيام عيد الأضحى لدى المسلمين، وعيد «الصوم» (روژين ئيزي)، الذي تسبقه ثلاثة أيام من الصيام وينتهي بأول يوم جمعة في كانون الأول الشرقي، وعيد «باتزمي» الذي يستمر سبعة أيام في أواخر شهر كانون الأول الشرقي.
ويحتفل الكاكائيون بثلاثة أعياد سنوية: عيد «خاوندكار» (عيد الخليقة)، الذي يأتي في الشتاء للاحتفال ببدء الخليقة. يليه عيد الصيام، وهو صيام لمدة ثلاثة أيام ينتهي بعيد «قولطاس» أو «صاحب الشأن» الذي يرمز إلى خلاص البشرية. ثم عيد النوروز.
وتتمثّل أبرز أعياد الزرادشتيين في: عيد النوروز، وعيد «چارشمّه سور» (الأربعاء الأحمر)، إضافةً إلى احتفالات أخرى تتعلق بالدورات الزراعية والمياه والشمس، وتُقام هذه الاحتفالات بإشعال النيران والاحتفاء بالطبيعة، وتعكس تاريخ الديانة الزرادشتية الغني في المنطقة.
وتشمل أعياد الكورد المسيحيين أعياد الطوائف المسيحية الشرقية الأخرى مثل: الميلاد، الغطاس، القيامة (عيد الفصح)، الصعود، العنصرة، البشارة، التجلي، ورقاد والدة الإله.
وترتبط أعياد الكورد البهائيين باعتناق قلة قليلة منهم هذه الديانة، عقب إقامة مؤسسها «بهاء الله» (ميرزا حسين علي) في السليمانية، حيث غادر بغداد إليها عام 1854 ليتجنب الخلاف داخل المجتمع البابي، الذي أصبح في حالة من الفوضى بسبب افتقار أخيه غير الشقيق ميرزا يحيى النوري الملقب بـ«صبح أزل» مؤسس الديانة البابية الأزلية، ولدوره في انقسام المجتمع. وفي الوقت الحاضر هم موجودون في ثلاث محافظات بالإقليم: السليمانية وأربيل ودهوك، ويحتفلون بهذه الأعياد: عيد رأس السنة البهائية (النوروز)، عيد الرضوان (إعلان دعوة بهاء الله)، يوم إعلان دعوة الباب، يوم ولادة بهاء الله، ويوم وفاته، يوم ولادة الباب، ويوم استشهاده، يوم الميثاق، يوم وفاة عبد البهاء (عباس أفندي) ابن بهاء الله. ويُمنع الاشتغال في أغلب هذه الأعياد.
الأعراس
تتميز تقاليد الأعراس الكوردية بطقوس فريدة تتضمن «ليلة الحنة» قبل الزفاف، وتبادل الهدايا الذهبية، وتزيين العروس بالزي الكوردي التقليدي «جِلِى كوردى»، إضافةً إلى احتفالات مرحة مع الرقص والموسيقى الشعبية. وتشمل المراحل الرئيسية طلب العروس، والزيارة الثانية للتعرف على العروسين، وتحديد المهر، واختيار الذهب.
وتُعدّ مراسم طلب العروس من أول مراسم الزفاف، حيث يأتي ثلاثة أو أربعة رجال ونساء من كبار عائلة العريس لزيارة عائلة العروس للمرة الأولى، ويوضّح أحد الزوار أسباب زيارتهم لوالدي العروس، ليبدي بعد ذلك والد الفتاة قبوله أو رفضه لهذا الزواج، وفي حال موافقة والد الفتاة، تقوم العروس بتقديم الماء للضيوف بناءً على طلب عائلة العريس، ويكون الهدف من تقديم الماء رؤية العروس ومظهرها وشخصيتها، حيث إنها يجب أن تستمر في الوقوف حتى ينتهي الزوار من شرب الماء.
وتأتي الزيارة الثانية بعد الموافقة على الزواج، حيث يجيء العريس مع بعض أفراد عائلته لرؤية الفتاة والتعرّف عليها، ويقوم في البداية كبار السن من عائلة العريس بتقديم العريس للعروس ووالديها، ومن ثم يُمنح العروسان فرصة للتواصل ومعرفة بعضهما بعضاً، وإذا كان كلا الطرفين موافقين على هذا الزواج تطلب عائلة العريس من عائلة العروس تسليم ابنتهم لهم للزواج.
ويشكل مهر العروس، الذي يسمى «ناكست» باللغة الكوردية، من العادات المهمة لدى الكورد، والذي يُقدم نقداً أو ذهباً لعائلة العروس خلال وقت الخطبة، كما من الممكن أن يُقدّم كهدايا للعروس وعائلتها. ويختلف مقدار مهر العروس من منطقة لأخرى، وذلك حسب ثروة عائلة العريس، وحسب مكانتهم الاجتماعية أيضاً.
في بداية حفل الزفاف يضع العريس خاتم الزفاف للعروس، لتبدأ بعد ذلك الاحتفالات المليئة بالغناء والرقص، كما تُقدم الهدايا من قبل أقارب الشاب إلى والدي الفتاة تقديراً لهم خلال هذا الحفل، وينتهي حفل الزفاف بعد تقديم الشال الذي يطلق عليه اسم (shara buke) للعروس، والذي يكون في العادة باللون الأبيض، والأصفر، والأحمر، كما تُوضع حلقتان في إصبع العروس، ترمزان إلى الخطوبة وإلى حق الزوج في زيارة العروس في الأوقات التي يرغب فيها.
الرقصات والعروض الموسيقية
يُعد الشعب الكوردي من الشعوب المحبة للموسيقى والرقص بشكل كبير، لذا يتم تأدية العديد من العروض الموسيقية والعديد من الرقصات النموذجية الشهيرة والمميزة خلال حفلات الزفاف بحسب عادات الزواج وتقاليده، حيث تشمل العروض الموسيقية ثلاث فئات: رواة القصص، والشعراء، والمنشدين، في حين تشمل الرقصات كل من رقصة ديلان (Dilan) ورقصة سيپيه (Sepe) ورقصة جيريان (Geryan) ورقصة تشوپي.
المأكولات
ثمة أوجه تشابه بين المطبخ الكوردي ومطابخ جيرانهم المباشرين في إيران وتركيا والعراق وسوريا وأرمينيا، وهو غني بالتنوع: الدولمة (يابراخ) (الخضار المحشوة) تعد من أشهر الأكلات، الكبة المحشوة باللحم والبصل (الكوتك)، البرياني، خبز التنور (النان)، والمطعّم بالسمسم، الذي يُخبز في الأفران الطينية ويُعتبر رمزاً للدفء العائلي، خبز الرقاق (التيري) وخبز الصاج، الترشيك (حساء لحم الضأن والباذنجان)، أطباق الألبان مثل «الدوغاو» و«الدوخاوا» (شوربة السلق والشبت باللبن)، أطباق الرز الأبيض والأحمر والبرغل والمرق (الباميا، الفاصوليا، الكوسا، السبانخ، الطرشانة (مزيج المشمش المجفف والألوچة، أو القراصيا)... الخ)، الرز المخلوط بالحمّص والبصل وصدر الدجاج الذي يُضاف إليه الكاتشب والفلفل الحار بعد وضعه في الطبق، والدۆين (مزيج من الجميد أو الكشك والحبيّة واللحم، قلية سيئر، الدجاج المحشي، القوراو (مزيج من اللحم، واللبن الزبادي، والبصل الأخضر، والزعتر)، هگشيخ محشي (رولي باذنجان محشي بالجبن واللحم المفروم)، مجدّرة باللبن، تشريب اللحم أو الدجاج، المشاوي (الكباب، المعلاق، القلب، الضلوع، بيض الغنم)، الرهك (مزيج من اللحم والرز والخضروات المطهية معاً في القدر، مع وجود شرائح البطاطس أو الكفتة في الطبقة السفلية)، الكعوب (نبات شوكي)، القاورمة، خبز بالبرغل، شوربة البرغل (شله ساوَر) بالطماطم، شوربة الرز بالحليب، الكالانة (خبز الصاج المحشي بأي نوع من الحشوات، ويُقفل على شكل هلال أو نصف دائرة، وتخبز على الصاج أو في مقلاة على الطباخ)، وسركه (رز بدبس الرمان). وعادةً ما يعقب هذه المأكولات الشاي الذي يحتل مكانةً لا غنى عنها.
الفنون والحِرَف اليدوية
صناعة السجاد الكوردي، المعروف بألوانه الزاهية ورموزه الهندسية، يمثل فناً موروثاً ذا دلالات رمزية. والحرف اليدوية مثل التطريز وصناعة الأدوات النحاسية والخشبية، تحافظ على تقاليد الأجداد وتُصدَّر خارج الإقليم.
الثقافة الشعبية والهوية المعاصرة
اليوم، مع تأثير العولمة والتكنولوجيا، يسعى الكورد إلى الموازنة بين الحفاظ على موروثهم الشعبي والانفتاح على الحداثة. إذ نجد الفلكلور الكوردي حاضراً في المهرجانات، والأزياء التقليدية متجددة في تصميمات شبابية، والأغاني التراثية تُعاد بألحان عصرية.