«السياحة المظلمة» في كوردستان... الواقع والإمكانات التنموية
«السياحة المظلمة» في كوردستان... الواقع والإمكانات التنموية

السياحة المظلمة أو المعتمة أو السياحة الداكنة أو السياحة السوداء، كلها تسميات أطلقت على أحد أشكال السياحة غير التقليدية، التي لها صلة ببعض الملامح المظلمة والمأساوية للإنسانية، مثل الموت والمعاناة والعنف والقتل والتعذيب والإبادة والكوارث. 

ويعد مصطلح «السياحة المظلمة» (Dark Tourism) من المصطلحات الحديثة الاستخدام في الدراسات الأكاديمية السياحية، حيث استخدم أول مرة في تسعينات القرن الماضي من قبل جون لينون (John Lennon) ومالكولم وفولي (Malcolm Foley) في دراسة لهما نشرت في المجلة الدورية للدراسات التراثية.

وعُرِّف مصطلح السياحة المظلمة من قبل (Lennon and Foley) بأنها عبارة عن ظاهرة العرض والاستهلاك من قبل الزوار لمواقع الموت والكوارث الحقيقية المعاد صياغتها، أو جذب زوار المواقع السياحية المرتبطة بحوادث الموت والكوارث الحديثة والتاريخية. ويُعد إقليم كوردستان من المناطق التي تزخر بمواقع يمكن تصنيفها ضمن هذا النمط السياحي، نظراً لما شهده من صراعات ومعاناة تاريخية، مما يتيح له فرصة حقيقية لاستثمار هذه التجربة الأليمة في مجال السياحة المظلمة من أجل التوعية، والتوثيق والتنمية.

ويمكن تعريف السیاحة المظلمة بأنها زيارة إلى الأماكن التي شهدت مآسي أو كوارث إنسانية، مثل الحروب، والمجازر، والكوارث الطبيعية، أو السجون ومراكز التعذيب. ويكون الدافع الأساسي للزوار ليس الترفيه، بل الرغبة في فهم التاريخ المظلم للمكان، واستيعاب معاناة ضحاياه، والتعلم من الماضي. ويرتبط هذا النمط السياحي بمفاهيم مثل الذاكرة الجمعية، والعدالة الانتقالية والاعتراف بالمعاناة، مما يجعله مختلفاً عن الأشكال التقليدية للسياحة.

أما فيما يتعلق بأهمية السياحة المظلمة، فإنها تتمثل في عدد من الجوانب منها:

  1. توثيق الذاكرة التاريخية: تساعد في الحفاظ على ذاكرة الشعوب وعدم نسيان ضحايا الأحداث التاریخیة.
  2. تلعب السياحة المظلمة دوراً مهماً في اقتصاد الدولة مالياً، فالمواقع السياحية المظلمة تُزار سنوياً من قبل أعداد كبيرة من الزوار الذين، إضافة إلى صرفهم للأموال كزوار وسياح في تلك المواقع، يدفعون رسوم الزيارة والدخول إلى المواقع، ما يشكل مورداً مالياً مهما لتلك المواقع. وقد تشير بعض التقديرات إلى أن ما يقارب من 7% من العائدات السياحية العالمية تأتي من أنشطة متعلقة بالسياحة المظلمة.
  3. التعليم والتوعية: تقدم دروساً أخلاقية وإنسانية حول ما لا ينبغي تكراره، من خلال تسليط الضوء على الفظائع الماضية.
  4. العدالة الرمزية: تُعد شكلاً من أشكال الاعتراف الرسمي بضحايا الانتهاكات، وتكريمهم من خلال تحويل معاناتهم إلى مواقع للزيارة والاحترام.
  5. تحفيز الحوار والمصالحة: من خلال عرض التاريخ بطريقة شفافة، تساعد السياحة المظلمة في بناء مجتمعات أكثر وعياً وإنصافاً.

وتصنّف السياحة المظلمة إلى أنواع متعددة، بناءً على طبيعة الحدث أو الموقع:

- سياحة الحروب: زيارة مواقع المعارك أو الآثار الحربية.

- سياحة السجون والتعذيب: مثل زيارة السجون السياسية أو مراكز الاعتقال.

- سياحة الكوارث: زيارة أماكن تضررت من الزلازل أو الانفجارات أو الكوارث البيئية.

- سياحة الإبادة الجماعية: زيارة مواقع المجازر أو حملات التطهير العرقي.

مواقع سياحية مظلمة في كوردستان

يمتلك إقليم كوردستان العراق رصيداً مؤلماً من التجارب التي يمكن توظيفها في إطار السياحة المظلمة، ومن أبرز هذه المواقع:

  1. مونومينت حلبجة (نصب شهداء حلبجة)

يُعد من أبرز رموز السياحة المظلمة في الإقليم، حيث يخلّد ذكرى مجزرة حلبجة التي ارتكبتها القوات العراقية في عام 1988 باستخدام الأسلحة الكيميائية، وراح ضحيتها أكثر من 5000 مدني. ويحتوي النصب على قاعات تعرض صور الضحايا، وثيابهم، وشهادات حية من الناجين، ما يجعله موقعاً مؤثراً للغاية. ويجذب آلاف الزوار المحليين والأجانب سنوياً.

  1. متحف «الأمن الأحمر»

يعتبر هذا المتحف وجهة من الوجهات السياحية المظلمة في محافظة السليمانية، ويشتهر المتحف الوطني في المبنى الأحمر الخاص بمديرية الأمن في السليمانية بلونه الأحمر، لذلك تمت تسميته بالأمن الأحمر، حيث كان يديره نظام البعث الغاشم. وتحوّل هذا المبنى في عام 1979 إلى كلية للزراعة، وذلك بطلب من الحكومة العراقية آنذاك، ومن ثم إلى الإدارة المحلية وما لبث أن أصبح سجناً للمناضلين والتحرريين، جرت فيه العديد من عمليات القتل والتعذيب.

تم تحرير المبنى بعد انتفاضة 1991 وحُوّل إلى متحف يتضمن العديد من الأقسام التي خُصّص عدد منها ليكون صورة حيّة تنقل للزوار حجم المعاناة التي ألمّت بالشعب الكوردي، فضلاً عن الجرائم التي ارتُكبت ووسائل التعذيب التي مارسها نظام البعث الصدامي بحقهم. ولقد أصبح مكاناً للذاكرة والتاريخ يتوافد إليه المئات من الزوار والسياح ليتعرفوا على ما مر وحدث في الفترات الماضية. اليوم أصبح متحف الأمن الأحمر بأقسامه المتعددة وقاعاته المتنوعة مركزاً ثقافياً ومعلماً سياحياً وشاهداً حياً يثبت أن لغة الإنسانية والثقافية أقوى من لغة الدم.

  1. منطقة گرميان وعمليات الأنفال: تعد عمليات الأنفال التي تعرضت لها كوردستان بشكل عام ومنطقة گرميان بشكل خاص من أبشع الجرائم اللاإنسانية التي تعرضت لها القومية الكوردية، والتي اُرتُكبت بين يوم 7 ويوم 20 نيسان عام 1988 على يد حزب البعث المقبور، إذ عدت هذه العمليات في منطقة گرميان من أشد العمليات قسوة وتسببت بخسارة كبيرة للقومية الكوردية من حيث عدد الشهداء والأضرار المادية والمعنوية، التي تمثلت بعدم معرفة مصير أكثر من 43841 شخصاً، وبتدمير أكثر من 500 قرية، إذ تم بتاريخ 14 نيسان إلقاء القبض على أكبر عدد من سكان قريتي ملسورة وكولجو حاجى حمه جان من كافة الفئات العمرية من دون مراعاة فارق العمر من الأطفال والنساء والشباب والمسنين وقتلهم. وقد بلغ عددهم أكثر من 20 ألف شخص، بلغت نسبة الذكور منهم 66.61% مقابل 33.39% للإناث، وكانت لحكومة حزب البعث الصدامي عدة أهداف وراء هذه العمليات، من أهمها أسباب سياسية، واقتصادية، وديموغرافية واجتماعية:
  2. أحداث سنجار: تشكل الأحداث التي شهدتها مناطق مثل زاخو وسنجار جزءاً من ذاكرة المعاناة الكوردية، خصوصاً فيما يتعلق بجرائم تنظيم داعش ضد الإيزيديين في سنجار. والمواقع التي عُثر فيها على مقابر جماعية أو تم فيها أسر نساء وأطفال، تُعد من بين المواقع المرشحة لأن تكون وجهات سياحة مظلمة مستقبلية.

سبل تطوير السياحة المظلمة

لكي يتم تطوير السياحة المظلمة بشكل مستدام وإنساني، هناك عدد من الخطوات المقترحة:

  1. تأهيل وتوثيق المواقع: ينبغي تأهيل المواقع بشكل يراعي مشاعر الزوار ويحافظ على خصوصية الضحايا، مع توثيق الأحداث بدقة، باستخدام شهادات حية، ووثائق أصلية، وعرضها بطريقة تعليمية وإنسانية.
  2. إعداد كادر متخصص: تدريب مرشدين سياحيين متخصصين في التاريخ والحقوق الإنسانية ليكونوا قادرين على نقل القصة بحساسية واحترام.
  3. دعم البنية التحتية: توفير وسائل نقل، لافتات إرشادية، وأماكن إقامة بالقرب من المواقع لجعلها سهلة الوصول للزوار من داخل الإقليم وخارجه.
  4. الترويج الإعلامي والأكاديمي: إنتاج أفلام وثائقية، ومقالات، وأبحاث أكاديمية عن هذه المواقع والترويج لها عبر الإنترنت ووسائل التواصل، لتعريف العالم بتاريخ المنطقة.
  5. الشراكات الدولية: التعاون مع منظمات دولية مثل اليونيسكو، ومنظمات حقوق الإنسان، لتعزيز الاعتراف العالمي بهذه المواقع كجزء من التراث الإنساني، وقد يؤدي ذلك إلى إدراج بعضها ضمن قائمة التراث العالمي.

وأخیراً یمكن القول إن تقدم السياحة المظلمة في إقليم كوردستان فرصة فريدة لدمج الذاكرة التاريخية مع التنمية المستدامة، وهي ليست دعوة لاستغلال الألم، بل وسيلة لتكريمه والتعلم منه. فمن خلال تحويل مواقع الألم إلى منارات تعليمية وإنسانية، يمكن للإقليم أن يلعب دوراً محورياً في تعزيز ثقافة السلام والعدالة.

إن استثمار هذه الإمكانات يتطلب رؤية استراتيجية تراعي الحساسية الأخلاقية، وتشرك المجتمعات المحلية في بناء مستقبل لا ينسى الماضي، بل يستفيد منه في صناعة حاضر أفضل.


د. شيروان عمر رشيد

أستاذ متخصص  في مجال الجغرافية السیاحیة في جامعة السلیمانیة



X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved